العام 1945م: “روما مدينةٌ مفتوحة” لروبرتو روسّيلّيني

مارتشيلّو بيروكّا/ إيطاليا

لا يمكننا الحديث عن السينما عام 1945م من دون البدء برائعة روبرتو روسّيلّيني “روما مدينةٌ مفتوحة”، الفيلم الذي صدر في ذلك العام تحديدًا. ولئن أُجريَ إخراجه في العام السابق أثناء الاحتلال النازي/ الفاشيّ للعاصمة الإيطالية، فإنَّه يسلِّط الضوء جيّدًا على روح المقاومة التي أفضت إلى التحرير.

أطلق هذا الفيلم، بالإضافة إلى فيلم “اضطهاد” للمُخرج لوكينو فسكونتي 1943م، شارة البدء لموسم الواقعيّة الجديدة الإيطاليّة، التي كانت مُكثَّفةً رغم قصر مدّتها، وتعتبر أحد أهمّ التيّارات السينمائيّة التي حظيت بتقديرٍ واسع على المستوى العالميّ.

العرض الأوّل “لـروما مدينةٌ مفتوحة”:

كان مسرح كويرينو في روما على موعدٍ مع العرض الأوّل للفيلم، في سبتمبر 1945م، لكنَّه لم يحظَ على إجماع كبار النقّاد في تلك الآونة. وكان لكثيرٍ منهم- أبرزهم المُخرج لويجي كومنتشيني، وأنطونيو بيترانجيلو- تحفُّظاتٌ أخلاقيّة وأيديولوجيّة وأسلوبيّة وجماليّة. في حين أنَّ نقّادًا آخرين، مثل ألبرتو مورافيا، وإندرو مونتانيلّي، وماريو جرومو، وكارلو ليتساني، أثنوا على فيلم روسّيلّيني. وجاء التقدير الأكبر من قِبَلِ الجمهور ومن الأوساط النقديّة الأجنبيّة، وأهمّها الفرنسيّة والأمريكيّة.

كان المُخرج روبرتو روسّيلّيني ذائع الصيت؛ بسبب إخراجه أفلام بروباجاندا للأسطول الملكيّ الإيطاليّ (السفينةالبيضاء1941م، وعودة الطيّار1942م، ورجل الصليب1943م)، ومع هذا ارتأى أن يصوِّر فيلمًا يتحدّث عن المقاومة. فجعل أحداثه تدور في العام 1944م، والبلاد تحت وطأة الاحتلال، مُستلهمًا من الوقائع اليوميّة لمدينةٍ مكبَّلةٍ بنير النازيّة وقد فتك بها الرعب. وفي الأشهر الأولى من العام اللاحق، بدأ بتصويره مُعتمدًا على السيناريو الذي ألَّفه صديقاه سيرجو أميديي، وألبرتو كونسيليو.

عمَّ يتّحدث “روما مدينةٌ مفتوحة”؟

تتمحور القصّة حول الدون جوزيبّي موروزيني، الراهب المُلتزم بالمقاومة، والذي أُدين بالموت؛ نظرًا لنشاطاته النضاليّة، ولقي مصرعه على يد فرقة إعدام فاشيّة. لكنَّ “روما مدينةٌ مفتوحة” يتفادى التركيز على شخصيّةٍ واحدة، أي الدون موروزيني، رغم أهمّيّتها- والتي اتّخذت في الفيلم اسم الدون بييترو بيلّيجريني، وأدَّاها ألدو فابريتسي- إنَّه بالأحرى فيلم مُتعدِّد الأصوات، تتشابك فيه أحداثٌ مُختلفة ومُتّصلة فيما بينها، بدءًا من شخصيّة المُهندس جورجو مانفريدي (مارتشيلّو بالييرو)، الناشط الشيوعيّ والعضو البارز في لجنة التحرير الوطنيّة، الذي يفرّ من الألمان فيلتجئ إلى بيت فرانشسكو (فرانشسكو جرانديجاكي) صاحب المطبعة المُناهض للفاشيّة الذي سيتزوَّج بينا (آنّا مانياني) الأرملة الحامل بفرانشسكو وأمّ الطفل مارتشيلّو (فيتو أنّيكياريكو).

أضحى الفيلم أيقونةً، وشريطًا بمنزلة البيان لتيّارٍ سينمائيٍّ كامل. تحتوي القصّة على شخصيّاتٍ متنوّعة، يشكِّل بعضها جزءًا نشطًا من الكفاح من أجل التحرير، مثل جورجو، وفرانشسكو، وحتّى الدون بييترو، الذي لا ينكر تعاونه أبدًا إذ أوكِلَت إليه مهمّة المرسال بين المُناضلين. شخصيّاتٌ أخرى تمثِّل جانب الشعب والناس البسطاء، مثل بينا التي تتقمَّص دورها آنّا مانياني المُتألّقة بأداء دراميٍّ عظيم. وشخصيّاتٌ أخرى تجسِّد دور العمالة، والتجسُّس لمصلحة الألمان، مثل مارينا (ماريّا ميكي) خطيبة جورجو مانفريدي التي لا تتردَّد بالخيانة لتأمين المُخدِّرات المُدمنة عليها.

إنتاج “روما مدينةٌ مفتوحة”:

أُخرِجَ الفيلم بأدواتٍ بسيطة وطارئة، بسبب نقص الموادّ في بلدٍ مُدمَّر، على حدّ قول روسّيلّيني نفسه في إحدى المُقابلات. كانت هناك فكرةٌ أساسيّة: الابتعاد قدر الإمكان عن مفهوم السينما الذي كان شائعًا في العقدين السابقين، المعروف بما يسمى “سينما الهواتف البيضاء”، التي ترسم عالمًا زائفًا، تطغى عليه الأبّهة، وغير واقعيّ على الإطلاق، ومُنفصلًا تمامًا عن الحياة اليوميّة الإيطاليّة إبّان الفترة نفسها.

على حدّ قول روسّيلّيني نفسه مرّةً أخرى: كان يتطلَّع بهذا الفيلم إلى جعل السينماتوغراف وسيلةً مُفيدة، وذلك بإدخال ابتكاراتٍ أسلوبيّة كانت مُستبعدةً حتّى تلك اللحظة، ولا تخطر في بال، مثل تصوير المشاهد في الأماكن الحقيقيّة، في الشوارع، والباحات، وسلالم البنايات. وبذلك خرجت السينما من الاستديوهات المُغلقة إلى الناس، لمواجهة العالم الواقعيّ.

أدرك روسّيلّيني ومُساعدوه- أميديي وكونسيليو آنفا الذكر، وفيديريكو فيلّيني الذي كان شابًّا حينها يخطو خطواته الأولى في عالم السينما- أدرك ضرورة إبراز الحياة الحقيقيّة للناس العاديّين، ضحايا القنابل والرعب الذي زرعه المُحتلّ النازيّ وأعوانه الإيطاليّين من ذوي القمصان السوداء. وقد تبنَّى لذلك طريقة جديدة في صناعة السينما، تستنكر تضخيم الماضي كلّيًّا، وتضع الكاميرا المحمولة تحت تصرُّف المُمثِّلين والجمهور. واستخدم لغةً عاديّة وبسيطة، زاخرة بلهجة روما المحكيّة، ووضعها بصورةٍ تراجيديّة على النقيض من لغة النازيّين الألمانيّة التي لم يُخضعها للدبلجة.

لذا تصبح الكاميرا المحمولة أداةً يستجمع بها المُخرجُ الجوهرَ الحقيقيَّ للفترة التاريخيّة. أنتج روسّيلّيني فيلمًا مأساويًّا ورصَّعَه بلحظاتٍ من البهجة القادرة على التخفيف من حدّة التوتُّر المُتصاعد. وخير مثالٍ على هذا، المشهد الذي يتظاهر فيه الدون بييترو بمُجالسة رجلٍ مُحتضر، وما هو في الواقع سوى عجوزٍ كان الدون بييترو قبل قليل قد ضربه بالمقلاة على رأسه؛ كي لا يكتشف أمره الجنود الذين يمشِّطون المنطقة. وهي لحظة مُمتعة بفضل طريقة إخراجها وانتقالها بسرعة من المأساة إلى الهزل.

في المشهد اللاحق نغرق مُجدّدًا في المأساة، حيث تركض بينا وتصرخ خلف الشاحنة التي تأخذ رجلها بعيدًا، فتلقى مصرعها رشقًا بالرصاص لتموت على قارعة الطريق، وابنها مارتشيلّو يعانقها باكيًا. مارتشيلّو الذي كان في المشهد السابق يضحك على ضربة الدون بييترو بالمقلاة على رجل العجوز.

الأطفال في “روما مدينةٌ مفتوحة”:

شخصيّة مارتشيلّو ليست ثانويّةً على الإطلاق. يؤدّي الأطفال في الفيلم دورًا مفتاحيًّا: إنَّهم ضحايا الحرب الأبرياء، يشهدون دمار عالمهم على أيدي الكبار. ويحاولون التصدّي للغضب البشريّ، بطريقةٍ ساذجة وعبقريّة في الآن ذاته. يفعلها روموليتّو، الفتى المبتور الذي يريد أن يمتشق السلاح لمُحاربة المُعتدي. ويفعلها الجميع بتفجير محطّة وقود بقذيفة.

ثمّ يختم الأطفال الفيلم بمشهدٍ ذي أثرٍ عاطفيٍّ شديد: فبعدما شهدوا على إعدام الدون بييترو عاجزين عن فعل أيّ شيء، يعودون صامتين نحو المدينة التي تتبدّى في الخلفيّة وقبّة القديس بطرس تهيمن عليها.

من جهةٍ أخرى، لطالما كان الأطفال أبطالًا في الواقعيّة الجديدة، ويؤكّد ذلك ملمِّعو الأحذية في فيلم “شوشا”1946م، وبرونو ريتشي الصغير في فيلم “لصوص الدرّاجات الهوائيّة”1948م، والفيلمان من إخراج فيتّوريو دي سيكا الذي كانت له نظرة خاصّة بالطفولة، وقد عبَّر عنها في فيلم “الأطفال ينظرون إلينا”عام 1943م.

أو كما يبيِّنه الفتى إدموند الذي يهيم في برلين المُخيفة في فيلم “ألمانيا العام صفر”روبرتو روسّيلّيني، 1948م- وكلّ هذه الشخصيّات تسلِّط الضوء بشكلٍ مهيب على فكرة الطفولة المُغتصبة.

أحدث فيلم “روما مدينةٌ مفتوحة” علامةً فارقة في السينما الإيطاليّة؛ فرغم أنّه أُخرِجَ في فترةٍ ما تزال فيها الأحداث التاريخيّة المتناولة جاريةً، فإنَّ الفيلم يصوِّر بأسلوبٍ فعّالٍ وخالٍ من الخطابة لحظةً تاريخيّة مفصليّة في مُستقبل إيطاليا. ينبغي مُشاهدة الفيلم مرارًا، وتدريب الأجيال الجديدة على مُشاهدته، لعلَّهم يتعلَّمون جزءًا من تاريخ إيطاليا، وتاريخ السينما كذلك.

اقرأ أيضاً