المرأة التي هزت عرش روسيا!

تُعتبر الثورة البلشفية أول ثورة شيوعية في القرن العشرين أسفرت عن انتهاء حُكم القياصرة بعد ثلاثة قرون من الاستقرار، ونتج عنها بحور من الدماء لكل الأطراف. والبلاشفة جماعه سياسية تكونت عام 1903م مُنبثقة من حزب العمل الاشتراكي، وكانت تسعى لتغيير حُكم القياصرة باستخدام العنف والسلاح بقيادة فلاديمير لينين الذي كان منفيًاً في سويسرا لعدة سنوات، ولكنه كان يحرك أتباعه من الخارج قبل أن تنجح ثورته في القضاء نهائيا على حُكم أسرة رومانوف، ومن يدين بالولاء لنظام القياصرة!

روسيا تحتل مساحة من الأراضي تبلغ سُدس الكرة الأرضية، وتمتاز بثروة من مناجم الذهب، والألماس، والمعادن، هذا غير الأراضي الزراعية مُترامية الأطراف، ورغم ذلك كان الشعب الروسي يعيش في وضع اقتصادي بالغ السوء، وخاصة الفلاحين والعمال الذين كانوا يعانون من شظف العيش، بينما كانت قصور أسرة القيصر ورجاله والنبلاء من عائلته يرفلون في النعيم والبذخ الرهيب، ومع ذلك تحمل الشعب ما يحصل عليه من فتات حتى فاض الكيل بدخول روسيا حروبا مُتتالية انتهت بخسائر جسيمة، وزياده التضييق على أفراد الشعب مما أدى للانفجار.

هذه المرحلة المفصلية من التاريخ قدمتها السينما العالمية في عدد لا بأس به من الأفلام، بعضها روائي، والآخر تسجيلي.

المُختار آخر القياصرة:

مُسلسل تقع أحداثه في ست حلقات، يقدم بانورما تاريخية لما حدث، وأدى إلى كارثة تاريخية لأسرة رومانوف، وهو من إخراج أدريان مكدوويل، وبطولة كل من روبرت جاك نيكي، في دور نيقولا آخر القياصرة، وسوزانا هيربرت أليكس في دور ألكساندرا، زوجة القيصر، و”بين كارتوريت” في دور “راسبوتين”.

تبدأ الحلقه الأولى بإعلان وفاة القيصر السابق، واجتماع العائلة لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، وبين المودعين ابنه، ووريث عرشه نيقولا، والملكة الأم، وجمع غفير من أفراد أسرة رومانوف، والفتاة الألمانية التي سوف تنضم للعائلة، ألكساندرا، التي تنتمي لأصول ألمانية، وقد تأجل إعلان زواجها على وريث العرش نظرا لوفاة والده المُفاجىء، ويواجه نيقولا الذى كان يبلغ السادسة والعشرين من عمره بعض المُقربين من أفراد عائلته، يبلغونه بأنه المُختار لتولي الأمور بعد وفاة والده، ولكنه يرفض تماما مُتعللا بأنه لا يعرف شيئاً عن السياسة، ولا التعامل مع الأزمات الكبرى، ولكن والدته وزوجته المُنتظره تؤكدان له أن الرب هو الذي اختاره لتلك المهمة، ولا يمكن أن يرفضها، وأنه سوف يجد الدعم والنصح من الجميع “مع مُراعاة أن الجميع كانوا من الغارقين في الطقوس الدينية المُتحفظة”. ويبدو من البداية مدى ولع نيقولا بعروسه المُستقبلية، ويصر رجال القصر على الاحتفال بزفافها عليه رغم حالة الحداد المفروضة على الجميع.

على جانب آخر ينتقل الفيلم إلى منطقة ما في سيبيريا، حيث يعيش شاب أفاق، “راسبوتين”، اشتهر بسرقة الجياد وبيعها ليجد ما ينفقه على أسرته الصغيرة، وبعد مُطاردة من أهل القريه، يتم القبض عليه وإجباره على الرحيل بعيدا بدلا من إيذائه وتوقيع أقصى العقاب عليه، ويهيم راسبوتين على وجهه، ويتردد على بعض الأديره والكنائس يقرأ الكتاب المُقدس ربما للمرة الأولى، ويخرج بمبدأ يطبقه على مُعظم من يلتقي بهن من النساء، وهو أن الطريق إلى الإيمان يبدأ بالوقوع في الخطيئة التي تستلزم التوبة للتقرب إلى الله، ويحقق خلال سنوات قليلة شهرة كبيرة ناتجة عن إيمان النساء بقدراته، وثقتهن فيه، أما القيصر نيقولا فهو يعيش حاله من التوتر والقلق رغم عشقه لامرأته أليكساندرا، وذلك بعد أن أنجب منها أربع فتيات، ثم ظل هو وزوجته في تضرع إلى الله كي ينجب طفلاً ذكرا ليضمن أن يكون للعرش وريث يضمن استمرار حُكم أسرة رومانوف، ولكن عندما يصل الابن الذكر يكتشف الأبوين أنه يحمل معه أسباب فنائه، فقد كان يعاني من مرض “هيموفيليا” الذي يُسبب سيولة ونزيفا في الدم إذا ما تعرض لأي خدش أو جرح بسيط، وقد يؤدي النزيف إلى وفاته في الحال، ويخفي القيصر وزوجته الحالة المرضية لابنهما الطفل عن بقية أفراد العائلة، وبالطبع عن الشعب، ولكنهما في نفس الوقت يبحثان عن علاج وحل جذري لهذه الحالة التي عليها الابن، حتى يتنامى إلى مسامع ألكساندرا اسم راسبوتين وما يُقال عن قدراته الرهيبة في حل أعقد الأمور التي استعصت على الجميع، وبوصول راسبوتين إلى القصر تبدأ مرحلة النهاية.

كان نجاح راسبوتين في علاج ابن القيصر مُبرراً للإيمان به وبقدراته، حتى أن “ألكساندرا” تتمسك به، وتريده قريباً من القصر لينقذ طفلها “وريث العرش” إذا ما حدث له مكروه، ويتنامى ويتصاعد نفوذ “راسبوتين” لدرجة أنه بدأ يتدخل في شؤون السياسة، حتى عندما يقرر نيقولا دخول الحرب مع اليابان وينصحه البعض بالتراجع غير أن راسبوتين يؤكد له بأنه سيحقق نصراً يدعم وجوده، ولكن الأسطول الروسي يخسر نسبة كبيرة من بوارجه وسُفنه الحربية، ومع ذلك تأبى ألكساندرا أن توجه أي لوم للكاهن الأفاق الذي أصبحت لا تستطيع أن تأخذ أي قرار في حياتها بدون مشورته، بل إنها تُجبر زوجها بوسائلها الأنثويه الخاصة بضرورة الإذعان لرأي راسبوتين، وتحدث الطامة الكبرى عندما تدخل روسيا الحرب مع النمسا التي تدعمها ألمانيا، وتلوح ظلال الهزيمة في الأفق، وهنا توحي ألكساندرا لزوجها بضروره التخلص من قائد الجيش وتولي مهام القيادة بنفسه حتى يدرك الشعب الروسي أن القيصر سوف يقود البلاد للنصر، وطبعا كان هذا بإيعاز من راسبوتين، وتصبح ألكسندرا هي التي تدير شؤون البلاد، والمسؤولة عن استبعاد الوزراء، وتعيين غيرهم وفق نصائح الكاهن الموتور، وانتشرت في البلاد شائعات عن علاقة مشينة بين ألكساندرا وراسبوتين، واتهمها البعض بأنها جاسوسة ألمانية سيطرت على القيصر لمصلحة بلادها، وأدت الهزائم المُتكررة إلى حدوث فوضى عارمة في البلاد نتيجة نقص المواد الغذائية، وانتشار الجوع؛ فخرج عمال المصانع في تظاهر، وانضم إليهم الفلاحين، وظهرت جحافل من النساء اللائي فقدن أزواجهن في الحرب العبثية، وهنا أدرك أفراد عائلة القيصر ضرورة التخلص من راسبوتين الذي يسيطر على عقل زوجة القيصر، قبل أن يحل المزيد من الخراب بالبلاد، ويبدو أن الكاهن الفاسد أدرك أن نهايته تقترب؛ فأعلن بوضوح أنه لو تم قتله على أيدي أفراد من عائلة رومانوف فسوف يكون في ذلك نهاية لروسيا، ولعائلة القيصر!ك

بعد أن أدرك نيقولا بأن رجال الجيش قد تمردوا عليه وانضموا للمُتظاهرين، وأن أسرته أصبحت مُحاصرة في القصر؛ قرر إعلان التخلي عن العرش لصالح عمه الذى رفض أن يتحمل المسؤولية، أما أليكساندرا التي نصحها حراس القصر بضرورة الهرب مع أبنائها خارج روسيا كما فعل بعض أفراد الأسرة الحاكمة فقد رفضت التحرك، مُعتقدة أن حرس القصر سوف يحمونها، وفقدت بذلك آخر فرصه للنجاة!

بعد إعلان تنازله عن العرش ازدادت الفوضى وأعمال العنف في كل مكان في روسيا، وتم القبض على جميع  أفراد عائلة القيصر وزوجته وأبنائه الخمسة، وتم عزلهم في منزل مُقبض وغريب تحت حراسة رجال أسوأ مما كانوا يتخيلون، وقرر لينين الذي كان يحرك الأحداث عن بُعد القضاء على كل أفراد أسرة القيصر دفعة واحدة حتى يقطع الفرصة على أي محاولة لإنقاذهم! وانتهت بذلك حياة أسرة آخر القياصرة الذي كان يعتقد أنه مدعوماً ومُختاراً من الرب لحماية بلاده، وبدأ حُكم لينين الذي تبين أنه أشد قسوة وعنفاً من كل ما سبق!

راسبوتين الكاهن الرجيم:

“راسبوتين” من الشخصيات التاريخية المُلغزة، والتي يحيط بها الغموض؛ فقد استطاع الرجل بدهاء وخبث أن يسيطر تماما على بلاط القصر الحاكم، وخاصة القيصر وزوجته التي آمنت به إيمانا أعماها عن خطر وجوده على القصر والدولة، قدمت السينما العالمية عدة أفلام عن راسبوتين من زوايا مُختلفة، أهمها في رأيي الفيلم  الذي لعب بطولته بعبقرية “ألان ريكمان” الذي تسلل إلى أعماق الشخصية بطريقة ثعبانية أتاحت له السيطرة واتساع النفوذ، وقد سبقه إلى تقديم نفس الشخصية المُمثل كريستوفر لي في فيلم “الكاهن المجنون”، إلا أنه قدم الدور من مُنطلق يقترب من أفلام الرعب وكأنه دراكولا، وليس كاهنا زنديقا له قدره التأثير على الآخرين من خلال اللعب على المشاعر الدينية المُرتبكة لدى البعض، المُهم أن كل المُعالجات التي تناولت شخصية راسبوتين انتهت بتوعده بإنهاء حُكم القيصر، وحدوث فوضى تُزعزع أمن روسيا في حالة قتله على أيدي أفراد أو جماعات من عائلة “رومانوف”، وقد حدث هذا بالفعل، وقد ادلهمت الأمور بعد مقتله؛ انتهت أسرة القيصر بجميع أفرادها بصورة تراجيدية بالغة القسوة بأيدي رجال الثورة البلشفية، وبأمر مُباشر من فلاديمير لينين الذي تولى حُكم البلاد بعد انتهاء عصر الطبقة الحاكمة، وكان هذا إيذانا بدخول روسيا عصر جديد ومُختلف، وأكثر وبالاً على المواطن الفرد.

الأميرة الهاربة:

النهاية المأساوية المتوحشة لأسرة آخر قياصرة روسيا قدمتها بعض الأفلام بتفاصيل حقيقية ومُؤلمة، وخاصة مع وجود أطفال لا ناقة لهم ولا جمل بكل الأمور التي حدثت، وأدت إلى قيام ثورة، وجاء مشهد الإعدام الجماعى لأسرة نيقولا بدون مُحاكمة ولا اعتبارات لوجود أطفال دليلا على أسلوب غير إنساني يؤكد على أن القادم مُخيف، بل يكسب الأسرة رغم أخطاء القيصر تعاطفا واستنكارا لما حدث مهما مرت السنين، ورغم المذبحة التي أنهت حياة كل أبناء الأسرة التي تواجدت في حجرة مُغلقة اقتحمها بعض الجنود وأفرغوا بشكل مُفاجىء رصاص أسلحتهم في صدور كل من بالغرفة، إلا أن الحكايات تؤكد على أن أحد الضباط تعاطف في وقت سابق مع الأميرة أنستازيا، وكان يعلم ما ينتظر الأسرة من نهاية؛ فقام بتهريبها لتنجو بحياتها، وعندما انكشف أمره تم إعدامه.

انتشرت القصة، وأيدها البعض، ونفاها البعض الآخر، واستثمرتها السينما الأمريكية في عدة أفلام أشهرها الفيلم الذي لعبت بطولته أنجريد بيرجمان مع يول برايمر في عام 1956م، ومن إخراج “أناتول ليتفاك”، ويتابع الفيلم أحد رجال الجيش الروسي الفارين إلى لندن قبل اندلاع الثورة البلشفية 1917م، حيث يلتقي بفتاة بائسة تشبه إلى حد بعيد الأميرة أنستازيا، ولأنه كان يتمتع بروح المُغامرة، وبالقدرة على النصب، فقد واتته فكرة جهنمية بالإتفاق مع الفتاة على أن تدعي أنها أنستازيا، ويقوم بإعدادها وتدريبها على أسلوب أميرات القصر الملكي، ويمدها بمعلومات وافية ودقيقة عن كل ما كان يدور بينها وبين شقيقاتها ووالديها، وأهم عاداتها حتى يتمكن من تقديمها لوالدة القيصر السابق التي كانت تعيش في لندن أيضا، وقد قامت بتهريب مجوهراتها وجزء كبير من ثروتها قبل أن تصل إليها أيدى رجال البلاشفة!

الفيلم يقدم أداءً مُمتعا لكل من يول براينر، وهو من أصول روسية، والسويدية الحسناء أنجريد برجمان التي قدمت في الفيلم أحد أهم أدوارها، بعد” كازابلانكا”، ولا يجيب الفيلم على سؤال: هل الفتاة هي حقيقة أنستازيا، أم أنها أجادت تمثيل الدور الذي رسمه لها الضابط المُغامر، من أجل الحصول على ثروة الجدة؟ المُهم أنه، أي الفيلم، إحدى وسائل الهجوم على الجانب الروسي سواء في عصر ما قبل الثورة، او بعدها، وذلك أثناء الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا!

الدائرة المُغلقة: أنت مقتول لا محالة

The INNER CIRCLE فيلم للمُخرج الروسي “أندريه كونشالوفسكي” من إنتاج 1991م، وبطولة “توم هالس”، المُمثل قليل الحظ الذي لعب شخصية المُوسيقار مُوتزارت في الفيلم العبقري “أماديوس” للمُخرج ميلوش فورمان، ولم تلتفت إليه السينما إلا في القليل من الأفلام متوسطة القيمة التي لم تمنح له فرصة التألق والتعبير عن صدق موهبته، حتى جاءته فرصه البطولة في فيلم “الدائرة المُغلقه”، حيث تدور الأحداث في روسيا أثناء حُكم ستالين، حيث “إيفان” عامل آلة عرض سينمائي يعيش في شقة بالغة البساطة، بها كل دلائل الفقر، وهو متزوج حديثا من فتاة تحبه ويحبها وتتحمل ظروفه، وتجاوره أسرة يهودية مكونة من زوجين وطفلة جميلة تحبها وتتعاطف معها زوجة إيفان، وفي يوم يُفاجأ إيفان باستدعاء لقصر الكرملين ليقابل ستالين، وتنتابه حالة هائلة من الذعر والارتباك، ويكاد يفقد وعيه أثناء اقتياده في سيارة مُدرعة في طريقها للمجهول، وفي قصر الكرملين يلتقي به أحد ضباط المُخابرات الروسية، ويخبره بأنه قد وقع عليه الاختيار ليكون مسؤولا عن ماكينة العرض السينمائي التي تعرض أفلاما شديدة الخصوصية لبعض الشخصيات العامة، وتدريبات الجيش، وشؤون أخرى تدخل في قائمة أسرار الدولة، مع تحذير شديد بعدم ذكر ما يشاهده لأي مخلوق، ولا حتى زوجته، ويشعر إيفان بإنه قد دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وقد حصل على رتبة عسكريه كعضو في المُخابرات، وزيادة ضخمة في راتبه مع مأكولات ما كان يحلم بها، وعندما يلتقي للمرة الأولى مع ستالين يشعر بأنه قد حقق كل أحلامه، لكن الأمر يتضح بالتدريج عندما سأل ستالين عن عيوب آلة العرض التي تُسبب ضررا أثناء عرض شريط السيليولويد، ويجيب إيفان ببراءة بأن الآلة تحتاج لقطعة إضافيي ألمانية الصناعة، تكاد تنقلب الدنيا فوق رأسه لأنه تجرأ على هذا التصريح، وتسوء الأمور بشكل أكثر ضراوة عندما يتم القبض على جار إيفان، فيواجه بتُهمه أنه لم يكتب تقريرا ضد جاره، في اتهام واضح بالتواطؤ، ولكنه يدافع عن نفسه بإنه لم يكن يعلم بأن لجاره أي نشاط ضد الوطن، وتكون الطامة الكبرى عندما تضم زوجة إيفان الطفلة، ابنه الجيران، إلى رعايتها بعد أن فقدت أبويها، وتكون التُهمة الموجهة له ولزوجته كيف تتعاطف مع ابنه خائن الوطن! ومع تداعي المواقف يكتشف إيفان أنه لم يدخل الجنة، بل أصبح في جحيم مُخيف ومُحاصر باتهامات مُرعبة لم تخطر على باله، انتهت بإعدامه!

الثورة البلشفية نجحت في التخلص من حُكم أسرة آل رومانوف التي سيطرت على القصر لثلاثمئة عام، ولكنها حولت حياة مُعظم الشعب الروسي إلى جحيم لا يُطاق، سواء كان مع أو ضد نتائج الثورة البلشفية.

اقرأ أيضاً