في الأناركيّة

بقلم: ليف تولستوي (1900م)

روسيا

الأناركيّون على حقّ في كل شيء: في نفيهم للنظام القائم، وفي تأكيدهم على أنّه من دون “سُلطة” لا يمكن أن يكون هنالك عنف أسوأ من ذلك الذي تمارسه “السُلطة” ضمن الشروط الموجودة حالياً. ولكنهم مخطئون فقط في اعتقادهم أنّ حالة اللاسُلطة يمكن أن تُقام بواسطة ثورة. [يجب] “أن نؤسس اللاسُلطة”. [ويؤكّدون أنّ] “اللاسُلطة سوف تُقام”. ولكنها سوف تُقام فقط بعد أن يتزايد عدد الناس الذين لا يطلبون الحماية من القوة الحكومية، وبعد أن يتزايد عدد الناس الذين يشعرون بالعار من جرّاء تطبيق هذه القوة.

يُقال: “التنظيم الرأسمالي سوف ينتقل إلى أيدي العمال، وعندها لن يكون هناك بعد ذلك قهر للعمال، ولا توزيع غير متساوٍ للمُكتسبات”.

يُقال أيضا: “من سوف يؤسس الأعمال؛ ومن سوف يديرها؟”

يجيب البعض: “سوف تسير من تلقاء نفسها؛ العمّال أنفسهم سوف يدبّرون كل شيء”.

يُقال أيضاً: “ولكن المنظومة الرأسمالية تأسست لهذا السبب تحديداً، من أجل هذه الشؤون العملية، لأن هناك حاجة لمُديرين مزوَّدين بالقوة. وإذا ما كان سيوجد عمل، سوف يكون هناك قيادة ومُديرون يمتلكون القوة. وعندما توجد القوة سوف يحدث استغلال لهذه القوة، وهو ما يعاكس تماماً ما تكافح لأجله”.

***

لا يمكن تقديم إجابة عن السؤال المطروح عن كيفية الوجود من دون “دولة” ومن دون محاكم وجيوش وما إلى ذلك، وذلك لأنّ السؤال مُصاغ بطريقة سيئة. فالمُشكلة ليست في كيفية تدبير وإدارة “دولة” على النمط السائد اليوم أو على نمط جديد. ولا أنا ولا غيري مخوَّل بتسوية هذه المسألة.

رغم أنّ الأمر طوعيّ إلا أنّه ينبغي علينا بشكل حتميّ أن نجيب عن السؤال: كيف سوف أتصرّف بمواجهة المُشكلة التي تَمثُل أمامي دائماً؟ هل سيُذعن ضميري للأفعال التي تحدث من حولي؟ هل أُعلن اتفاقي مع “الحكومة” التي تتعامل مع الأشخاص المُخطئين وترسل الجنود لكي يقتلوا، وتُفسد أخلاق الأمم بالمشروبات الروحية والأفيون، وغير ذلك؟ أو هل أُخضِع أفعالي للضمير، أي أمتنع عن المُشاركة في “الحكومة” التي تُعارض أفعالها عقلي؟

ما هي نتيجة هذا الأمر، وما هو نوع “الحكومة” الذي سيكون؟ هذان أمران لا أعلم عنهما أي شيء.  ليس الأمر أنني لا أتمنى معرفة هذه الأشياء، ولكنني لا أستطيع. أعلم فقط أنّ لا شرَّ يمكن أن ينتج من اتّباعي الإرشاد الأعلى للحكمة والمحبة، أو المحبة الحكيمة المزروعة فيّ؛ كما أنّ لا شرّ يأتي من النحلة التي تتبع الغريزة المغروسة فيها فتطير من الخلية مع السرب، إن صح التعبير، نحو حتفها. ولكنني أكرّر: إنني لا أرغب بالحُكم على هذا الأمر، ولا أستطيع ذلك.

في هذا تحديداً تكمن قوة تعليم المسيح، وليس هذا لأنّ المسيح هو الله، أو لأنه رجل عظيم، ولكن لأنّ تعليمه لا يمكن دحضه. إنّ جدارة تعليمه كامنة في حقيقة أنّه نقل الأمر من نطاق الشكّ الأبدي والتكهّن إلى جعله قائماً على أساس اليقين. “أنت إنسان، كائن عاقل ولطيف، وأنت تعلم أنّك اليوم أو غداً سوف تموت، وتختفي. ولكن إذا ما كان يوجد إله، فإنّك إذن ذاهب إليه، وسوف يسألك أن تعطيه حساباً عن أفعالك، فيما إذا كنت قد سلكتَ بمُوجب شريعته، أو على الأقل بالاتساق مع الخصائص الأسمى المغروسة فيك. أما إذا لم يكن هناك إله، فعليك أن تعتبر العقل والمحبة الخصيصتين الأسمى، ويجب عليك أن تُخضِع لهما نزعاتك الأخرى ولا تدعها تَخضَع لطبيعتك الحيوانية، لهموم الحياة والخوف من الكَدَر والبلايا المادية”.

أكرّر: ليس السؤال عن الجماعة التي ستكون أكثر أمناً وأفضل، تلك المحميّة بالأسلحة والمدافع وأعواد المشانق، أم تلك التي ليست محميّة بهذه الطريقة. ولكن يوجد سؤال واحد أمام الإنسان، وهو سؤال يستحيل التملّص منه: “هل سوف تشارك أيها الكائن العاقل والصالح، يا مَن ظهرتَ في لحظة ما في هذا العالم وأنت مُعرّض للاختفاء في أي لحظة، في قتل البشر المُخطئين أو أولئك الذين ينتمون إلى عرق آخر؟ هل سوف تشارك في الإفساد المُصطنع- المقصود- للأجيال البشرية بواسطة الأفيون والمشروبات الروحية من أجل الربح؟ هل سوف تشارك في كل هذه الأفعال، أو حتى توافق أولئك الذين يسمحون بها، أم لا؟

لا يوجد إلا إجابة واحدة أمام أولئك الذين يبرز هذا السؤال أمامهم. أما ما هي نتيجة هذا فأمر لا أعلمه، لأنّ معرفته ليست مُعطاةً لي. ولكنني أعلم من دون أيّ إمكانية للخطأ ما الذي يجب فعله. وإذا سألتني: “ما الذي سوف يحدث؟” فإنني أجيبك بأنّ الخير يقيناً هو ما سيحصل، لأنّه بالسلوك بحسب الطريق الذي يشير إليه العقل والمحبة، فإنّني أتصرف بالتوافق مع الشرع الأسمى المعروف لديّ.

***

إنّ مُعظم البشر المُستنيرين بالاستنارة الأخويّة الحقيقية مسحوقون اليوم بسبب خداع ومكر الغاصبين الذين يجبرونهم على إفساد حياتهم، وهذه الحالة فظيعة وتبدو بلا بصيص أمل.

لا يوجد أمامنا “هنا” إلا طريقين، وكليهما بلا منفذ. الأول يقوم على تدمير العنف بالعنف، وبالإرهاب وبقنابل الديناميت والخناجر، كما حاول أصحابنا العدميون والأناركيون أن يفعلوا، أي أن يدمّروا، من الخارج، هذه المُؤامرة التي تحيكها “الحكومة” ضد الأمم؛ والآخر هو الاتفاق مع “الحكومة”، وتقديم تنازلات لها، والمُشاركة فيها، من أجل تفكيك الشبكة التي تأسر الناس، بشكل تدريجي، وإطلاق سراحهم. وكلا هذين الطريقين- كما قلنا]- بلا منفذ.

كما أظهرت لنا التجربة فإنّ الديناميت والخنجر لا يأتيان إلا برد الفعل، وهما يدمّران القوة الأسمى قيمة، وهي الوحيدة التي بحوزتنا: الرأي العام. أما الطريق الآخر فهو مسدود لأنّ “الحكومات” قد سبق وأدركت إلى أيّ حدّ ستسمح بمُشاركة أولئك الذين يرغبون بإصلاحها. وهي تعترف فقط بذلك الذي لا يخلّ بها، وبما هو غير جوهريّ. وهي حسّاسة جداً بخصوص الأشياء المُؤذية لها، حسّاسة لأنّ الأمر يتعلق بوجودها. إنها تعترف بالذين لا يشاركونها رؤيتها ويرغبون بالإصلاح، ليس من أجل تسديد مطالب هؤلاء الأشخاص فحسب، بل أيضاً من أجل مصلحة هذه “الحكومة”. هؤلاء الأشخاص خطيرون على “الحكومات” إذا ما بقوا خارجها وثاروا ضدها، وبمُعارضتهم لها تكون الأداة الفعالة الوحيدة في يد “الحكومات” هي الرأي العام. ولذلك فعلى هذه “الحكومات” أن تجرّد هؤلاء الأشخاص من قدرتهم على إلحاق الأذى، بجذبهم عن طريق التنازلات، وذلك لجعلهم بلا ضرر- كالميكروبات المُستزرَعة- ومن ثَمَّ دفعهم إلى خدمة أهداف “الحكومات”، أي قهر الجماهير واستغلالها.

كل من هذين الطريقين بلا منفذ ومسدودين بإحكام؛ فما الذي يبقى مُمكناً فعله؟

استعمال العنف- في هذه الحالة- مُستحيل، لأنه لن يسبّب إلا ردّ فعل “عنيف”. كما أنّ الانضمام إلى صفوف “الحكومة” أيضاً مُستحيل؛ سنكون مُجرّد أداة لها. يبقى إذن مسار واحد، وهو قتال “الحكومة” بواسطة الفكر والكلمة والأفعال والحياة، من دون أن نذعن لها- من جهة- أو ننضم إلى صفوفها مُساهمين بذلك في زيادة قوتها- من جهة أخرى.

هذا فقط ما نحتاجه، وسيكون بكل يقين ناجحاً.

هذه هي إرادة الله، وتعليم المسيح. ولا يمكن أن يوجد إلا ثورة واحدة مُستمرة، وهي ثورة أخلاقية: تجديد الإنسان الداخليّ.

أمّا كيف سوف تحدث هذه الثورة؟ فلا أحد يعلم كيف ستحدث ضمن الجنس البشري، ولكن كل إنسان يشعر بها في نفسه بوضوح. ومع ذلك ففي عالمنا كلّنا نفكّر بتغيير البشرية ولا أحد يفكّر بتغيير نفسه.

تعليق:

كنت أتمنى أن أحصل على النصّ الروسيّ الأصلي لهذه المقالة أو الرسالة التي خطّها تولستوي عام 1900م، ولكنني للأسف لم أتمكن من العثور عليه، والتالي لم أتمكن من التحقق من صيغ تبدو ركيكة باللغة الإنجليزية في مكانين اثنين على الأقل. فضّلت ترجمة مُفردة Anarchy “وأفترض أنّها بالروسية Анархия، وبالتالي سيكون عنوان النصّ الأصلي О Анархии، إذا ما كانت الترجمة الإنجليزية حرفية” إلى “أناركيّة”، وAnarchist إلى “أناركيّ”. ورغم أنّ المُفردة الأولى تدلّ في اللغة الإنجليزية على “الفوضى” وهكذا تُتَرجّم، خاصة في السياقات الوصفية العامة لحالة بلد مُعيّن، ولكنني فضلت عدم ترجمتها بهذه الطريقة لكيلا يختلط المفهوم بالفوضى التي تُعبّر عنها كلمة Chaos، ولأنّ ترجمة الأناركية إلى “فوضى” يستبطن مُنذ البداية تحيّزاً سياسياً وأخلاقياً ضدها.

https://www.marxists.org/archive/tolstoy/1900/on-anarchy.html

اقرأ أيضاً