آخر سنوات العمر: لينين وسينما التفاح

خارج موسكو، وعلى مسافة حوالي 35 كليو مترا منطقة تلال اسمها الآن “جوركي لينينيسكي”، واحدة من أكبر مزارع التفاح في موسكو. في الماضي، وقبل شتاء سنة 1921م كانت تُسمى فقط “جوركي”، ولكنها مُنذ ذاك نُسبت إلى الزعيم الذي غيّر وجه التاريخ، فلاديمير أوليانوف، الشهير بالاسم الحركي لينين. وأضحت المُرتفعات اللينينية- هذا إن أردنا ترجمة الاسم-  فقد انتقل لينين وهو في الخمسين من عمره، وقد أصابته الأمراض للعيش على هذه المُرتفعات، أو للعزلة الإجبارية في البيت المُحاط بغابات التفاح الواسعة والمبني بطريقة العمارة الخشبية الروسية.

مدخل البيت به مجلس بسيط لاستقبال الضيوف العابرين إن وُجدوا من الأساس، حيث كانت إقامة لينين هناك بدون زائرين إلا من يُسمح له من الإدارة المركزية لحزب العمال الاجتماعي الذي سيطر عليه ستالين والرفاق بعد أن أُصيب لينين بالشلل النصفي. وأكثر شخص كان مسموحا له بالتردد على المنزل هو عامل السينما. وحسب المرويات عن هذه الفترة كان لينين شغوفا بفن السينما، وهو الذي قال في بدايات الثورة البلشفية عن السينما: “من بين كل الفنون، السينما هي الفن الأهم بالنسبة لنا”.

هذه المقولة التي رددها مُقتبسا معناها من بعده اللواء محمد نجيب عندما قامت الثورة المصرية 1952م، ولكن ما السينما التي كان يقصدها لينين؟ وما الفرق بين سينما لينين والسينما التي قصدها نجيب؟

عندما تنبأ لينين بأهمية السينما عام 1917م، لم يتجاوز حينها عمر السينما عقدين من الزمن. وكانت لم تزل يافعة في مرحلة الطزاجة، فلم يكن يقصد لينين السينما بمعناها المُعاصر، والتي قصدها محمد نجيب، ولكن لينين كان يقصد السينما وهي نقيّة، السينما بجوهرها الأساسي، السينما بمعنى فنون الصور المُتحركة.

في منزل العزلة اللينينية مرة أو أكثر أسبوعيا يأتي الرفيق عامل السينما ببكرات الافلام، وبعض الخطابات من الرفاق البعيدين. ومع كل هذا الصمت المُحيط في غابات التفاح المُحيطة، والجليد الروسي كاسيا حتى أهداب العيون، والمنزل الوحيد النائي في ظلام الغابة، تدور تروس ماكينة العرض أمام شخصين فقط، هما كل الجمهور الشارد بكل حواسه في عمق شاشة العرض، لينين ونادياجدا زوجته، بينما عامل السينما خلف الماكينة بالإضافة لمهمته السينمائية يدون المُلاحظات والحركات والإيماءات الصادرة من الجمهور- لينين وزوجته- في تقرير إلى اللجنة المركزية للحزب. كان لينين وزوجته يعرفان هذه التقارير، ولكن ماذا يجدي لرجل يعرف مصيره أمام اتحاد الأمراض المُنتشر في جسده الضئيل؟- لينين كان طوله 156 سنتيميرا- إنها آخر سنوات العمر كما قال لينين الذي استسلم للمرض منزويا مع أفلام السينما، وحوالي ألفين من الكتب في غرفة المكتبة، وكرسيين مُتحركين، واحد للمنزل، والثاني للخروج والتجول بجوار المنزل، وبكرات الأفلام التي تملأ خزينة كبيرة تحت السلم الداخلي.

في هذه الأثناء، وذات مساء صيفي 1923م أتى إلى المنزل بعض الضيوف من العمال والرفاق الثوريين لزيارة الزعيم الذي دعاهم لمُشاركته مُشاهدة فيلمه الأثير الذي لا يمل من تكرار مُشاهدته عن مصانع فورد الأمريكية. يا للمُفارقة لمن يفهم عني!

بسبب كثرة التجمع الزائر الذي قد لا تستوعبه صالة العرض المنزلي المحدودة بشكل ما اقترح عامل السينما على الرفاق أن يسلط شعاع ماكينة العرض عبر النافذة المُطلة على مساحة بالخارج تسمح بعمل شاشة مُعلقة بين شجرتي تفاح في الغابة،  وتم عرض الفيلم بنجاح مما جعل لينين يمزح قائلا رافعا نخب الرفاق: “مرحبا بالرفاق في الاجتماع الحزبي على شرف افتتاح  سينما التفاح”، وربما أصبحت عادة أسبوعية أن يتم عرض فيلم في دار سينما التفاح الصيفية المفتوحة تحت غطاء سماء جوركي لينينسكي.

في السنوات الأولي للثورة البلشفية 1917م حفز اهتمام لينين بالسينما قادة الحزب العمالي للجمهورية الاشتراكية- الحزب الشيوعي والاتحاد السوفيتي فيما بعد- على تبني السينما وإدراجها ضمن المناهج التعليمية والتثقيفية تحت إشراف إدارة اللجان التثقيفية، أو ما يُعرف باسم Narkompros وبدأت مرحلة تأسيس المعاهد السينمائية، والأندية السينمائية، والمجلات سينمائية، ونشر الثقافة السينمائية كوسيلة لتثقيف الجماهير الروسية، تحولت هذه الوسيلة الجديدة إلى أداة لخدمة البروباجندا السياسية التي تُمجد أهداف الحزب الشيوعي.

بين عامي 1918م، و1933م، وبسبب هذه النزعة والإجراء الثقافي الفريد؛ ظهر جيل من صُنَّاع الأفلام السوفييت العباقرة الذين وضعوا جميع قواعد صناعة الأفلام، وأسسوا الصناعة السينمائية، وحلَّلوا معاني اللقطات المُقرَّبة واللقطات البعيدة، وأنشأوا ما يُعرف اليوم بنظرية “المُونتاج”، وأساليب دمج اللقطات مع بعضها، ووضعوا كل القواعد الأساسية التي ما زالت تُستخدم حتى اليوم.

مثلما احتلت السينما جزءا كبيرا من شغف لينين، كذلك شغف إلى حد الهوس بها جوزيف ستالين، خلفه الأشهر، حيث كان رقيبا وهو في سُدة الحُكم على السينما بنفسه، يقرر بصفته الرقابية والحزبية هل يصلح الفيلم للعرض الجماهيرى أم يحاكم المُخرج والمُؤلف في تعسف كبير، ولم تستطع يوماً لا مسؤولياته الكبيرة كزعيم للاتحاد السوفيتي، ولا معاركه المُستمرة مع خصومه، ولا حتى الحرب الوطنية العظمى- الحرب العالمية الثانية- التي ذهب ضحيتها ملايين البشر من الاتحاد السوفيتي وألمانيا بشكل خاص، وكل الدول الأخرى بشكل عام، لم تستطع هذه المسؤوليات أن تمنع ستالين من مُتابعة جميع الأفلام السوفيتية الجديدة، ووضع مُلاحظاته عليها. ومن المعروف أن السينمائيين كانوا أصحاب حظوة لدى ستالين، ميزتهم عن جميع المُثقفين العاملين في مجالات إبداعية أخرى، إذ كانوا يُمنحون الأوسمة التقديرية والهدايا النفيسة بسخاء مثل جائزة ستالين للفنون، التي كانت تبلغ قيمتها المالية 100 ألف روبل للفيلم، وربما كانت لتمنح وتوزع في العام نفسه على عدد من أفلام الثلاثينيات، وهو مبلغ ضخم في عرف ذاك الزمن.

في اكثر من مبحث وكتاب عن السينما في الفترة السوفيتية، خاصة عصر ستالين. ذكر أن ستالين كان يدعو في جلسة حكومية مُخرجي الأفلام أثناء مُشاهدته للفيلم، مما يضع الصُناع في مناخ من التوتر العصبي والقلق النفسي الذي لا يُحتمل. فستالين كان يستطيع أن ينهض بكل بساطة ويغادر الصالة قبل انتهاء الفيلم فيما لو شعر بالضجر أو الانزعاج. ويُعد هذا التصرف بحد ذاته شكلاً من أشكال التقييم النقدي للفيلم، الذي لا بد أن يترك أثره المُباشر على مصيره، وفي بعض الأحيان على مصير مُبدعي الفيلم أنفسهم. ويُقال أنه بعد حادثة شهيرة كادت أن تودي بحياة المُخرج الكبير غريغوري كوزينتسوف أوقف ستالين هذه الدعوات. فما أن انتهى أعضاء المكتب السياسي من مُشاهدة فيلمه “شباب مكسيم” 1934م. الذي سيصبح أحد أشهر أفلام هذه المرحلة، وأحد كلاسيكيات السينما السوفيتيةـ وأضيئت الصالة، حتى توجه ستالين نحوهم مُتسائلاً عن رأيهم في الفيلم، لينهض كالينين- رئيس اللجنة التنفيذية المركزية لعموم روسيا حينذاك- مُدلياً بوجهة نظره قائلاً: “نحن عندما صنعنا الثورة لم نكن نعزف على القيثارة”، في إشارة إلى أحد مشاهد الفيلم.

عندها تلبد وجه كوزينتسوف، وتجمعت قطرات من العرق فوق جبينه، ليغرق في كرسيه فاقداً وعيه. بعد ذلك لم يعد ستالين يدعو المُخرجين إلى هذه الصالة السينمائية الفاخرة، وكان وزيرا للسينما اسمه بولشاكوف يقوم شخصياً بإحضار الأفلام وعرضها على ستالين، وعن طريقه كذلك كانت تصل توصيات وتوجيهات وتعليقات ستالين إلى السينمائيين. ويرجع البعض الكثير من الفضل إلى بولشاكوف في حماية عشرات الأفلام من طغمة ستالين. إذ كان يحاول مُسبقاً معرفة مزاج القائد، من خلال كلامه، حركاته، أو حتى عن طريق حراسه الشخصيين. فإن لم يكن ستالين بمزاج طيب، كان يمكن لأي فيلم مهما بدا “بريئاً” أن يُسبب الإزعاج له، ويرمى على الرفوف. مما كان يدفع بالوزير في مثل هذه الحالة إلى تأجيل العرض. بالطبع إن لم يكن مثل هذا الفيلم مطلوباً للمُشاهدة دون غيره من قبل ستالين. لتنتقل الأفلام بين مكتب لجنة السينما والكرملين عدة أسابيع في بعض الأحيان حتى يصبح مزاج القائد مُناسباً لعرضها. وكبديل عنها كان بولشاكوف يعرض أفلاماً أجنبية له، خاصة وأن عددها أصبح كبيراً بعد الحرب عندما جلب الجيش الأحمر من ألمانيا أكثر من ألفي فيلم أجنبي، أو يعرض له أحد أفلامه المُحببة التي لم يكن يمل مُشاهدتها.

نعود إلى لينين العاجز جليس الكرسي المُتحرك وسينما التفاح، ففي أوائل يناير سنة 1924م بدأت نوبات المرض تشتد على جسد الفيلسوف والزعيم، ولم تعد تُجدي الأدوية التي يشرف عليها أفضل أطباء الاتحاد السوفيتي والحزب الكبار، فكان يتناسى آلامه بمُشاهدة الأفلام حتى أنه فارق الحياة خلف النافذة أثناء عرض فيلم للرفاق الضيوف. ففي لحظات النهاية كانت تجلس بجواره في نزعه الأخير رفيقته نادياجدا، وباقي الرفاق يجلسون في البهو الخارجي خلف النافذة المُطلة على شاشة التفاح المُبتكرة، ونصف أحاسيسهم مع المريض الذي يتابع بين غفوة وإفاقة بنصف عين ونصف حياة ما يحدث على شاشة الفيلم المعروض إلى أن صرخت نادياجدا: الرفيق لينين فارقنا، لينين مات.

 في يناير، وكما هو معروف في هذا التوقيت من العام في روسيا أن الجليد هو السيد، يغطي كل ركن في الأنحاء، ودرجة برودة الجو تصل إلى 30 تحت الصفر، ومع ذلك حمله الرفاق على أكتافهم جثمانا كانوا دامعي الأعين في شموخ يستحقه القائد، ومشوا على أرضيات وممرات الجليد المُتعرجة بلا أي وسيلة مواصلات عبر الغابة حتي وصلوا به إلى مقر الحزب في الكرملين على بُعد 35 كيلو مترا، وهي مسافة كبيرة في هذا الصقيع أو في غيره.

خلدت هذه المسيرة الجنائزية الأولية المحدودة بتمثال رائع موضوع الآن في ساحة سينما التفاح، يمثل جثمان لينين ووجهه للسماء على أكتاف الرفاق، وحركتهم صوب الشمس، ومعها خلد في التاريخ مُصطلح سينما التفاح لفترة قصيرة على نوعية محدودة من الافلام إلى أن تلاشى المُصطلح تماما، والذي بدأ بمزحه في جوركي لينينسكي- مُرتفعات لينين- فصنعت أمواجا سينمائية للعالم، وتيارات فنية، وسحبت من السينما براءة بدايتها الأولى، وتعددت المُصطلحات إلى أن صارت علما.

اقرأ أيضاً