المدرسة من وجهة نظر أناركية

كيف نتمرّد على ما لا نعيه؟ و كيف نعي وجود قيود تكبّلنا وقد لقّنونا مُنذ الصغر أن هذه القيود هي الفضيلة والصواب والمفروض والفطرة السليمة؟ كيف نُدرك أننا أحرار فعلا ونحن- أي الجماهير- نأتي إلى العالم لتتلقفنا من اللحظة الأولى القوالب الطبقية المُتمثلة في علاقات الهيمنة وسائر أدوات الإخضاع الفكرية؟ تقول إيما جولدمان في هذا السياق Emma Goldman في “الطفل و أعداءه” 1906م: “كل مُؤسسة، وكل  أسرة، وكل دولة، وكل القوانين الأخلاقية في يومنا هذا، تعتبر كل شخصية قوية وجميلة وعنيدة عدوًا لدودا؛ ولذلك لا يتم ادّخار أي جهد ليتم  تقييد المشاعر الإنسانية والإبداع الفكري لدى كل فرد بسترة مجانين مُنذ طفولته الأولى؛ أو ليتم تشكيل كل ذات إنسانية وفق نمط واحد؛ ليس في شخصية مُكتملة، ولكن في شكل عبد مُجتهد وصبور، أو إنسان آلي مُحترف، أو مواطن يدفع الضرائب، أو مُنظّر في الأخلاق”.

إذن من أين تبدأ الثورة الحقيقية؟ فنحن قد نخرج اليوم، بل الآن، بل في هذه الثواني التي أحدّثك فيها، ونفتك الشوارع ونسقط كل أعدائنا، ثم نجد أننا قد أصبحنا ما كنّا نمقته ونرفضه، أو أعدنا أعداءنا لأننا في عمقنا لم نتعلّم كيف نعيش من دونهم. أليس مرد ذلك هو تمردنا على ما نراه ولكن لا على ما لا نعيه؟  ألا تمثل المدرسة جزءا من أدوات الهيمنة هذه؟

 علينا أن نعي أولا أن المنظومة الطبقية، وإن كانت تعتمد على احتكار الثروة والقوة لتضمن تواصل بقائها، إلا أن أداة الطبقة المُهيمنة الأولى في تثبيت هيمنتها هي الفوارق المعرفية بين البورجوازية و الجماهير الكادحة. يقول المُفكر والثائر الأناركي ميخائيل باكونين  Mikhail Bakunin1814-1876م في الجزء الأول من مقاله “فرص متساوية في التعليم” 1869م: “الموضوع الأكثر جدارة باهتمامنا في يومنا هذا هو: هل سيكون من المُمكن للجماهير العاملة أن تحقق التحرر الكامل ما دام التعليم المُتاح لتلك الجماهير يظل دون مستوى التعليم الذي يتاح للبورجوازيين، أو بعبارة أكثر شمولا، ما دامت هناك أي فئة، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، تحق لها بسبب الولادة تعليمًا أفضل وأكثر اكتمالًا؟ أليس الجواب واضحًا بمُفرده؟ أليس من الواضح أن أحد الشخصين اللذين منحتهما الطبيعة ذكاءً تقريبيًا متساويًا سيكون لديه الأفضلية؟ أليس صاحب الأفضلية هو الشخص الذي تم توسيع مداركه من خلال التعلم، والذي فهم العلاقات البينية للظواهر الطبيعية والاجتماعية- ما يمكننا أن نسميه قوانين الطبيعة والمُجتمع- بشكل أفضل ستكون لدبه جاهزيّة أكثر لاستيعاب مُحيطه بطريقة أعمق و أكثر شمولا؟ وأن هذا الشخص سيشعر، دعونا نقول، بحرية أكبر وبشكل عملي، سيظهر مهارة وقدرة أكثر من نظيره الذي لم يتعلم؟ من الطبيعي أن يسيطر من يعرف أكثر على من يعرف أقل”.

بناءً على ذلك، يمكن الاستنتاج بأن التعلّم و اكتساب المعارف من المنظور الأناركي هو ليس فقط حق لكل فرد- على حسب الرأي الرائج في عصرنا هذا، وهو رأي وإن كان ينبئ بحُسن نية قائله، إلا أنه يظلّ سطحيا- بل هو الأداة الأولى التي يتم عن طريقها تحطيم المنظومة الطبقية و إنهاء الهيمنة، و هي ليست فقط هيمنة من يملك المال والسلاح على الفقراء العزّل، بل هي هيمنه من يجيد استقراء الأوضاع ووضع الاستراتيجيات  المُقاربات على من لا يستطيع. هي تترجم في أيامنا هذه في التقنيات المُعقدة التي يعتمدها الإعلام والشركات الكبرى والحكومات في توجيه الجماهير التي لن تتحرر قبل أن تمتلك القدرة على حل شفرات أدوات الهيمنة تلك.

كما أنه لا يمكن اعتبار المُؤسسة التعليمة التابعة للمنظوم  في شكلها الحالي مصدرا حقيقيا للتعلّم، ذلك لأن من تمكن من الحصول على شهادة في آخر مسيرته الأكاديمية- حسب المُفكر ناعوم تشومسكي- “هو ذلك الذي تم تكييفه ليطيع السُلطة وهياكلها”. في نفس السياق، قال العالم الجغرافي والمُفكر الأناركي بيتر كروبوتكين Peter Kropotkin 1842-1921م في مقاله “القانون والسُلطة”  and Law  Authority 1886م: “لقد تم تشويهنا إلى حد كبير عن طريق نظام تعليمي يبدأ مُنذ الطفولة في محاولة قتل روح التمرد فينا وتطوير روح الامتثال للسُلطة. نحن مشوهون جداً، ونحن موجودون تحت سيطرة القانون الذي ينظم كل حدث في حياتنا- من ولادتنا، وتعليمنا، وتطورنا، وحبنا، وصداقتنا. إذا ما استمرت هذه الحالة كما هي، سنفقد كل مُبادرتنا، وكل عادة التفكير بأنفسنا. يبدو أن مُجتمعنا لم يعد قادرًا على فهم أنه من المُمكن أن نكون موجودين بطرق أخرى غير تحت حُكم القانون، الذي يُعد من قبل حكومة تمثيلية ويُديرها عدد قليل من الحُكام. التعليم الذي نحصل عليه جميعًا من الدولة، في المدرسة وبعدها، قد أفسد أفكارنا إلى حد أننا أضعنا مفهوم الحرية وحولناه إلى عبودية مُقنّعة”. كما أكّد تشومسكي على أن يكون هدف المدرسة الحقيقي هو إنتاج بشر لا تتمحور قيمهم حول مُراكمة الثروة والهيمنة، بل التعاون الحر على قاعدة المساواة، و شدّد أيضا على وجوب أن تكون قيمة التعليم موجهة نحو مهارات التفكير النقدي للطلاب، وعملية اكتساب المعرفة المُفيدة والقابلة للتطبيق.

كانت الأناركية دائما تميّز بين مُؤسسات الدولة ومناهجها التعليمية، والتي تعتبرها وسيلة لبرمجة الأطفال وتحويلهم إلي مُجرد أفراد خاضعين، و الهدف الحقيقي للتعلّم الذي يحرر الفرد من قيود السُلطة ويهيئه ليصبح جزءا فاعلا في مُجتمع تحرري يقوم على التضامن والمساواة.
يقارن الكثير من الأخصائيين والباحثين في المجال التربوي نموذج المدرسة الحديثة بنموذج المصنع في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث يقف التلاميذ في شكل صفوف، ويدخلون عندما يرن الجرس، ويجلسون في شكل صفوف، ويلتزمون بجملة من القوانين إلى أن يرن الجرس ويؤذن لهم بالانصراف، ويعتقد الكثيرون أن المدرسة في شكلها هذا تعمل بالأساس على تدريب الناشئة الطاعة والانصياع للقوانين حتى يصبحوا في المُستقبل عمالا مُطيعين لصاحب رأس المال، كما أن المدرسة الحديثة مهووسة بفكرة “المواطن النموذجي” الذي توافق معالمه ومكونات شخصيته دائما نظام الحُكم و سياساته.

تشير الإحصائيات إلي أن الهوّة بين طبقة الأثرياء وطبقة الفقراء آخذة في التوسع بنسق سريع مُنذ ثمانينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا، و تفسّر مُنظمة التعاون الاقتصادي والتنموي OECD في تقرير لها أن العولمة هي أحد الأسباب الرئيسية في اتساع الفروقات، والمزيد من احتكار الثروة من طرف النُخبة. والعولمة هي، وإن كان ظاهرها مُرتبطا بالتكنولوجيا الحديثة، فهي في جوهرها تمثل هيمنة الأيدولوجيا النيوليبرالية التي أنتجت جملة من المبادئ في رؤيتها للتعليم، مثل ما يُعرف بتسويق التعليم “تسويق التعليم” Marketization of Education، وخصخصة التعليم، والحد من تمويل العمومي، و أدى هذا إلى تحوّل التعليم تحت النظام الرأسمالي لا فقط إلى سلعة، بل إلى امتياز طبقي.  

توصّلت دراسة عن تأثير الفقر في المستوى الدراسي لدى لميستي لاكور Misty Lacour و لاورا دي. تيسينغتون  Laura D. Tissington  إلى أن التلاميذ الذين هم من العائلات ذات المدخول الضعيف كانت نتائجهم دون المتوسط بغض النظر عن انتمائهم الإثني والعرقي. وبناءا على ذلك فإن التأسيس لتعليم مُتحرّر من دوغمائية السُلطة والثقافة الرأسمالية هو جزء أساسي من النضال ضد القهر في سبيل غد بلا قيود ولا عبودية. بل هو أهم المعارك التي يجب أن ينتصر فيها الأناركيون لتحرير الأطفال من كل عمليات القولبة والبرمجة التي يخضعون لها.

قدّم الأناركيون العديد من التجارب التعليمية، في نظري، تجربة “المدرسة الحديثة”- ليس لهذا المُصطلح أي علاقة بالمدرسة الدولة الحديثة- لرجل التعليم الأناركي فرانشيسكو فيرير Francisco Ferrer  الذي وُلد سنة 1859م أليلا، بارشلونا وتم إعدامه في 13 أكتوبر 1919م بعد اتهامه بالتحريض على التمرّد. هو خبر علقت عليه الكاتبة الأمريكية فولتيرين دي كلير Voltairine de Cleyre 1866-1912م كالآتي: “في مثل هذا اليوم مُنذ عام مضى، عندما انطلق برق الرعب الأبيض من عمق ظلام غرفة التعذيب الإسبانية، ووضع في خندق مونتجويك Montjuic إنسانًا كان قبل لحظة واحدة فقط من ذلك تجسيدًا للشهامة، في زهرة الحياة، في قوة وكبرياء الفكر المتوازن، مليء بهدف مشروع عظيم ومُتنامٍ- مشروع المدارس العصرية- لقد كان ذلك صفعة في وجه كل الإنسانية]…[ لا يمكن للفرد العادي أن يصدق أنه من المُمكن لأي مجموعة من الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم اسم الحكومة، حتى لو كانت الأسوأ والأكثر استبدادًا، أن تقتل رجلاً لأنه مُدرس. مُدرّس العلوم الحديثة، و باني المدارس الصحية والنظيفة، وناشر الكتب المدرسية. لا، لا يمكنه أن يصدق ذلك”.

قال الثائر الأوكراني نيستور ماخنو في بيان الماخناوية في حديثه عن تنظيم الكميونات “الكومونات لم ترغب في إحياء النوع القديم من التعليم واتفقوا على اتباع منهج المدرسة اللاسُلطوية لـفرانسيسكو فيرير – التي كانت تُقرأ عنها التقارير بشكل مُتكرر وتُوزع المنشورات- أردت من هذين المثالين أن أشير إلى حجم الأثر الذي تركه فيرير في زمانه، حيث تردد صيته من الشرق إلى الغرب بين مُعاصريه، بل إنه كان مصدر إلهام الكثير من التجارب التعليمية التي لا يسعنا المجال في أن نناقشها الآن.
في كتابه “أصل المدرسة الحديثة ومُثلها العليا” يشرح فرير مبادئ المدرسة الحديثة التي تتمثل مهمتها في “ضمان أن يصبح الأولاد والبنات المُلتحقين بالمدرسة مُتعلمين جيدا وصادقين وعادلين ومُتحررين من كل الأحكام المُسبقة” وأنها “تربي النشء على الواجبات الاجتماعية السليمة، طبقاً للمبدأ العادل “لا واجبات دون حقوق، ولا حقوق دون واجبات”، وكما يؤكد على أنه “يجب أن يكون هناك تعليم مُختلط بين مُختلف الطبقات الاجتماعية وكذلك بين الجنسين”.

طبعا وكانت هذه المبادئ تُعد من المُسلّمات في عصرنا هذا، إلا أنها كانت ثورة على الكثير من الأفكار الجامدة سنة 1901م. يقول الكاتب: “لقد حرص الحُكام دوما على أن يسيطروا على تعليم الناس، فهم يعلمون أكثر من أي شخص آخر أن سُلطتهم ترتكز بالأساس على المدرسة، لذلك فهم يصرون على الاحتفاظ باحتكارهم لها. لقد انتهى الوقت الذي كان يمكن للحُكام فيه أن يعارضوا انتشار التعليم وأن يضعوا حدودا لتعليم الجماهير”.

يعلق على المعارف التي يتم تقديمها في مدارس الدولة قائلا: “أغلب المعارف التي يتم تقديمها في المدارس هي في الأصل عديمة الفائدة. وأمل الكثير من المُصلحين قد خاب لأن المُؤسسة التعليمية، عوضا عن أن تخدم هدفها الأسمى، أصبحت واحدة من أقوى أدوات العبودية لدى الطبقة الحاكمة” تخلى فيرير في مدرسته عن الامتحانات وعن العقاب، كما شجع التلاميذ على إبداء آرائهم في سبيل تشجيعهم على أن يكونوا مُستقلين بذواتهم. كما أن المدرسة لا تسند جوائز، لأن فيرير يهدف إلى دفع الأطفال إلى اكتساب التحفيز الذاتي، حيث أنه يعتقد أن حبّ التعلّم لا يجب أن يكون بدافع خارجي مثل الجوائز. كما يؤمن  بوجوب أن يرتكز محتوى التعليم على الحياة الحقيقية Real-life Learning، حيث يكون الطفل هو جوهر العملية التعلميّة وأن يتعلم كل طفل حسب حاجته وميولاته، وأن يكون المُعلّم بمثابة المُرشد والميسّر، لمُساعدة الطفل على اكتشاف اهتماماته.

كانت رؤية فيرير في عصره للتعليم ثاقبة، وقد حان الوقت لأطروحات ثورية جديدة في التعليم تعمل على تحرير العقل من دوغمائية العصر والحث على الإبداع وتحطيم الفروقات بشكل عمودي وأفقي. لقد حان الوقت لتعليم مُتاح فعلا للجميع على قدر سواء، ومدرسة يكون شاغلها الأول هو تحرير الإنسان لا تدجينه. 

اقرأ أيضاً