مارسيل بروست: المجاز والذاكرة

بقلم: آنّا ماريّا كونتيني/ إيطاليا

أوجه الخفَّة والثِّقَل:

تظهر العلاقة بين الثِّقَل والخفَّة، في نصّ بروست، عند مستويين: مستوى الخطاب النظريّ، حيث ترتبط بإشكاليّاتٍ جوهريّة مثل الزمن، والذاكرة، والزوال، ومعنى الفنّ ووظيفته؛ ومستوى الخطاب السرديّ، حيث تبرز بوضوحٍ في عدّة مواقع من الحكاية. ما يعني أنَّ ضحالة الاهتمام بهذه الموضوعة ليست راجعةً إلى هامشيّتها كما يفترض بعض النقَّاد، إنّما بسبب تمظهرها العَرَضيّ ضمن نسيج العمل الواسع، والشكل الدلاليّ الذي عادةً ما تتَّخذه، خلافًا لمَحَاور نظريّةٍ وسرديّةٍ أخرى تُبيِّنُها الرواية جليًّا أو تناقشها صراحةً.

لا شكَّ أنَّ بروست يميل إلى دعم أسباب الخفّة: إذ تُشكِّلُ الخفّة جزءًا مُهمًّا من مجموعة “الإيجابيّات” في “البحث عن الزمنالمفقود”- المكوَّنة من مسارات الذاكرة اللاإراديّة والخلق الفنّيّ؛ في حين أنَّ الثِّقَل يُخيِّمُ على “السلبيّات”- المكوَّنة من مسارات الذاكرة الإراديّة، والتعوُّد.

كما أنَّه لا مفرَّ من الثِّقَل لمعرفة الواقع: فالواقع الذي يبدو أسيرًا للمادّة التي تحجب معناه، يجعل الأشياء تستبسل لتقاوم محاولاتنا لفكِّ شيفرتها؛ ولا يشفُّ هذا الحجابُ إلّا أحيانًا، عندما ترفعنا المُحاكاة العَرَضيّة الساطعة إلى مستوى الحقيقة الجوهريّة التي لا تخضع للزمن. يواجه بروست ثِقَلَ العالَمِ المحسوس بخفّة عالَمٍ مثاليّ، وبذا يُلمِح إلى مرجعٍ مُهمٍّ لفكره: الروحانيّة العلمانيّة، التي كانت نشطة في الأوساط الفلسفيّة السائدة في عصره، ومن المُحتمل أنَّها أثَّرت فيه في فترة دراساته الثانويّة والجامعيّة. ورغم ذلك، في الجزء الختاميّ من الرواية، يتوصَّل بروست إلى حلٍّ مُختلف: يختفي المساران المتوازيان لكلٍّ من الثِّقَل والخفّة، وتنحسر علاقة الإقصاء المُتبادل التي كانت تهيمن على هذين المفهومين، ما يُفسِحُ المجال لهما للتلاقح والتشابك في رسم آفاقٍ حديثةٍ وأصيلة.

يُمثِّلُ العملُ البروستيّ، باستطراداته المُتكرِّرة ذات الطابع الفلسفيّ والجماليّ، يُمثِّلُ روايةً عابرةً للنوع: بصفتها ثمرةَ رحلةٍ فكريّةٍ دؤوبة، فهي تسعى لتكون ناطقةً باسم رؤيةٍ مُعيَّنةٍ للعالم، الذي لا تبدو كتلتُهُ النظريّةُ عرضةً لخطورة خيار التعبير الأدبيّ. من جهةٍ أخرى، فإنَّ لخيار النوع الروائيّ صلةً بإشكاليّة الخفّة: بالنسبة إلى بروست، تتجسَّدُ الحقيقةُ بخفّةٍ أكبر إذا ما كُتِبَت “بالاستعانة بالصور” على حدّ تعبيره في “الزمن المُستعاد”. إذ إنَّ صور الحكاية تضيء معنى الأشياء، لكي يكتسب مرونةً وليونةً أكبر.

إنَّ “البحث عن الزمن المفقود”هي رواية الذاكرة، حيث لا تُشكِّلُ الذكرياتُ مادّتها الخام فحسب، بل بنية الحكاية وهيكلها الأسلوبيّ الذي يُؤسِّس القصّة المرويّة ويُنظِّمها. ينحلُّ خيطُ الذاكرة مُنذ الصفحات الأولى، عندما يسترجع الراوي ذكرياته في بلدة “كومبريه” حيث كان يقضي العُطَل في صغره مع العائلة.

على أنَّ قرّاء الرواية يعرفون بوجود صفتين “لكومبريه”: الأولى مُكثَّفةٌ بمسوَّدةٍ مُوجزةٍ وإهليجيّةٍ تتبدّى من سيناريو رتيب يغلق كلَّ المنافذ؛ والثانية تطلق شارة البدء للحكاية الأساسيّة، وتزخر بالموضوعات والشخصيّات، وتتمدَّد في جوٍّ أكثر مرونةً وضياءً وتلوُّنًا. تنشأ “كومبريه الأولى” من ذكرى هاجسٍ مُتعلِّقٍ بالطفولة، ومُرتبطٍ بعادةٍ يوميّةٍ يعيشها البطل/ الطفل كما لو أنَّها عذاب: ذهابه إلى النوم، فراقه عن أمِّه لقضاء ساعات الليل الحزينة وحيدًا في غرفته. لا يقال لنا شيءٌ بما يخصُّ تلك الساعات التي تُسبِّب الخوف؛ وفي المُقابل يُوصَف انتظارها بدقّةٍ وتفصيل. يُحدِّد الراوي أنَّ الكآبة كانت تنتابه في وقتٍ مُتأخِّرٍ من العصر، حين تغدو غرفة النوم مركز مخاوفه. اعتبارًا من تلك اللحظة، سيجد الراوي نفسه مُحاطًا بلغة القلق والمُعاناة؛ حتّى قبلة ما قبل النوم تصبح موضوعًا لانتظارٍ تشنُّجيّ: بينما يحسُّ أنَّ أمَّه تقترب من غرفته، يتجهَّزُ الطفل مُنذئذ للحظة التي ستتركه فيها بمُفرده من جديد. وبذا تكشف الكآبة عن جوهرها: الرغبة في استحواذٍ حصريّ، في تقاربٍ مُستمرٍّ لا تقطعه الغيابات. رغبةٌ تدرك استحالة تحقيقها، لذا ترى في الزمن عدوًّا لها. لذا فإنَّ ثِقَل “كومبريه” الأولى مُتعلِّقٌ بانغلاقها في أفقٍ زمنيٍّ ساكنٍ ومُتكرِّر، حيث يُفرِّغُ اختلاطُ الرغبةِ والكآبةِ التجربةَ الحقيقيّةَ والملموسةَ من مضمونها.

تبقى الصور الشحيحة ثابتةً في ذاكرة الراوي البالغ، فكلَّما فكَّر “بكومبريه” لا يرى إلّا “مأساة النوم”، من دون أن يشعر بأيّ اهتمامٍ نحو الماضي الآخرالمدفون فيه:

“على أنّي كنتُ أستطيع، والحقّ يقال، إجابة سائلي بأنَّ “كومبريه” تحوي أمورًا أخرى وأنَّها موجودةٌ في ساعاتٍ أخرى. ولكنّني لن تداخلني الرغبة في يوم في تذكُّر ما تبقَّى من “كومبريه” لأنَّ ما يمكن أن أتذكَّره منها إنّما تزوِّدني به حصرًا الذاكرة الإراديّة، ذاكرة العقل ولأنَّ المعلومات التي تتوافر لي عن الماضي لا تحتفظ بشيء منه. لقد مات كلّ ذلك بالحقيقة بالنسبة إليّ”. (ص 112).

لا يمكن فصل الإخفاق الذي مُنِيَت به “كومبريه” مُنذ أوَّل استحضار، عن نوع الذاكرة الذي شكَّلَ ذلك الاستحضار: ذاكرةٌ تقودها الإرادة، التي تعيد بناء الحاضر وفقًا لمنطق الرغبة المُتعسِّف، وتبلوره في كتلٍ مُنفصلة، وتحيله إلى صورٍ قليلة تخلو من الحركة والتواصل والاندفاعة. أمسى الماضي مضغوطًا وثقيلًا، ففقد شحنته الدافعة، وتجذَّرَ في أجزاء حياتيّة يتحكَّم بها العقل ويُخرِجها إلى الضوء: تتمثَّل الذكرى بمُضاعفة التجربة المُنقضية، وبأمانةٍ قد تشي عن معناها الجوهريّ. وصحيحٌ أنَّ ذكرى “كومبريه” الأولى تعيد تصوير الجوّ الخانق والتعيس الذي يُميِّزها، ولكن هل يتبدَّد معناها في ذلك حقًّا؟ ألا يحوي هذا الكون الطفوليّ الصغير ألوانًا أخرى وأشكالًا أخرى، تتأثَّر بدورها بانطباعاتٍ مُختلفة؟

الإشكاليّة، بالنسبة إلى بروست، تكمن في الحاجز القائم بين “اللقطات العفويّة” التي ثبَّتتَها الذاكرة الإراديّة، وبين الواقع الذي يحتوي على انطباعاتٍ من زمنٍ فائت. في تلك اللحظة حصرًا يصبح من المُمكن تلقّي الإيحاءات العشوائيّة المُستقلّة عنّا، لنعثر فيها على مدخلٍ لأكثر أبعاد الذاكرة والزمن اكتمالًا. وهذا ما يحدث للراوي مع حلوى المادلين، حيث إنَّ نكهة الكعكة المُغمَّسة بالشاي تحيي على نحوٍ غير متوقَّعٍ تجربةَ “كومبريه” المُتكاملة، ليثير فيه إحساسًا جديدًا بالسعادة:

“ولكنّي ارتعشتُ في اللحظة نفسها التي لامست فيها الجرعةُ الممزوجةُ بفتات الحلوى حلقي وأنا مُتنبِّهٌ لما كان يجري فيَّ من أمرٍ خارق. لقد اجتاحتني لذّةٌ حلوةٌ مُفردةٌ مُجرَّدةٌ عن فكرة سببها. وجعلت تقلُّباتِ الحياة في الحال غيرَ ذات بال وكوارثَها عديمة الأذى وقِصَرَها وهميًّا وملأني مثلما يفعل الحبُّ بجوهرٍ ثمين: والأحرى أنَّ هذا الجوهر لم يكن فيَّ بل كان أنا نفسي. فلم أعد أشعر بأنّي شيءٌ هيِّنٌ وعارضٌ وفانٍ. فمن أين استطاعت هذه الفرحة العارمة أن تأتيني؟” (ص 113).

إنَّ إحساسًا من هذا النوع، بالنسبة إلى بروست، نابعٌ من تدفُّق الذاكرة اللاإراديّة، التي إذ تنسف النظائر الزمانيّة والمكانيّة، تحيي فينا شعورًا خبرناه في الماضي، وتعرضه علينا في كونٍ ظنَّناه مفقودًا. هي الذاكرة التي تتحرَّك من خلال طرح الثِّقَل: فقبل أن يربط الراوي الإحساس المُتأتّي عن الحلوى بذكرى مُعيَّنة، يشعر بشيءٍ يصفه كالتالي: “يرتعش في داخلي وينتقل ويودُّ لو يرتفع، كأنَّما فكَّ عقاله في العمق البعيد؛ إنَّني لا أدري ما هو لكنَّه يصعد ببطء” (ص 113). تحدث قيامة “كومبريه” التدريجيّة عبْر تشبيهاتٍ مجازيّة تحيل على صورةٍ تُعبِّرُ عن الخفّة: الذكرى “تخفق”، “تتململ”، لتصعد شيئًا فشيئًا لتختلط في “عاصفة الألوان المُثارة اللامدركة”. وفي الوقت نفسه، يُشدِّد بروست على هشاشة مسارٍ مُهدَّدٍ من قوىً مناوئة، تقاوم الحركة التفكيكيّة للذاكرة اللاإراديّة، وتحاول أن تدحر الذكرى إلى الهاوية التي خرجت منها: “فهل تبلغ صفحةَ وعيي الواضح هذه الذكرى، هذه اللحظة البعيدة التي جاءت جاذبيّةُ لحظةٍ مُماثلة تستثيرها من البعيد البعيد وتحرِّكها وتدفعها من داخل أعماقي؟  لست أدري. فلم أعد أحسُّ الآن بشيء، لقد توقَّفَت وربّما انحدرت ومن يعلم إن كانت ستصعد في يوم من عتمتها؟ ينبغي لي أن أعيد الكَرَّة عشرات المرّات وأن أكبَّ عليها” (ص 114). ورغم هذا، وبعد صراعٍ طويل، يبدو أنَّ الغلبة للخفّة، التي تكشف عن طاقاتٍ لا لبس فيها:

“على أنَّه حين لا يظلُّ شيء من الماضي البعيد بعد موت الكائنات ودمار الأشياء فإن الرائحة والطعم وحدهما، وهما أشدُّ هشاشة ولكنّهما أطول عمرًا وأكثر شفافية وأشدّ استمرارًا وأوفر أمانة، إنّهما يظلّان فترة طويلة كمثل الأرواح يتذكّران وينتظران ويأملان فوق خراب كلِّ ما عداهما ويحملان من دون خور على قطرتهما غير المحسوسة بناءَ الذكرى المُترامي” (ص 114).

علم نفس الزمن:

البحث عن الزمن المفقود: يتَّضح الموضوع الأساسيّ بدءًا بعنوان الرواية، التي يمكن تعريفها، بحسب توصيف “بول ريكور”، بأنَّها “حكايةٌ عن الزمن”. بروست نفسه، في الحوار الذي أجراه عشيَّة صدور الجزء الأوَّل، أكَّدَ أنَّه مثلما هنالك هندسةٌ مستوية وهندسةٌ فراغيّة، كذلك روايته “لا تتكوَّن من سيكولوجيا مستوية فحسب، إنّما من سيكولوجيا زمنيّة أيضًا”. وأضاف إنَّه بغية إظهار الجوهر غير المرئيّ للزمن، ينبغي تجسيده في نسيج حكاية فرديّة بقدر ما هي جمعيّة.

هنا مجموعةٌ من المعاني التي يحيل عليها مفهوم الزمنفي الرواية:

أ) الزمن مفقود لأنَّه مهدورٌ في الكسل، ومُبذَّرٌ باتِّباع مُتعٍ طائشة، ومنذورٌ لأهواء غير مُجدية، مفقودٌ في تردُّد البطل الذي يُؤجِّل الشروع بحياة جادّة ونشيطة إلى الغد.

ب) الزمن مفقود لأنَّه منسيٌّ، ومُزال، يجري من دون أن يترك أثرًا من جوهره ومعناه الحقيقيّ.

ج) الزمن مفقود بسبب الحياة نفسها: الفقدان، في هذه الحالة، مردُّهُ الزمن المُدمِّر الذي بانقضائه يستنزف نفسه ويستنزفنا، ويحكم على كلّ إنسان وكلّ شيء بالأفول والموت.

بينما يُلمِح المعنيان الأوَّلان إلى فقدانٍ ذاتيّ، حيث الفرد هو المسؤول، يبدو المعنى الثالث أنَّه نتيجة فقدانٍ موضوعيّ، حتميّ، لما له من ارتباطٍ بقانون استحالة العودة بالزمن إلى الوراء. وقد خصَّصَ عديدٌ من دارسي بروست وناقديه اهتمامًا شديدًا لإشكاليّة الزمن والذاكرة، ولم يكتشفوا فيها مبدأ يُنظِّمُ الحكاية فحسب، بل محورًا نظريًّا تدور بقيّة المحاور في فلكه. وصحيحٌ أنَّ كثيرًا من قراءاتهم، في العقود الأخيرة، شكَّكَت بمركزيّة هذه الموضوعة، إن ليس في التنظير الصريح، ففي البنى السرديّة التي تقوم عليها “فلسفة الرواية الضمنيّة” على الأقلّ: جيل “دولوز”، على سبيل المثال، حدَّدَ مركزيّة البحثبرحلة الراوي عبر العلامات، أي في قصِّ التدرُّب على البحث عن الحقيقة. ورغم هذا، “دولوز” نفسه يُقرُّ بأنَّ الذاكرة تتدخَّل بوصفها وسيلةً لا غنى عنها لهذا البحث، بقدر جوهريّة العلاقة بين الحقيقة والزمن. ويبدو لنا من الأهمّيّة أن نفهم طبيعة علاقة إشكاليّة الزمن والذاكرة بإشكاليّة المعرفة المجازيّة، المعرفة التي تفرض أولويّة إدراك التحوُّلات التي تطرأ على الحقيقة واللغة.

بالنسبة إلى “جان جينيه”، يُمثِّل المجازُ المُكافئَ الأسلوبيَّ للتجربة السيكولوجيّة التي تخوضها الذاكرة اللاإراديّة، بل إنَّ المجاز يحظى بميزةٍ لا يمكن نكرانها بمُقارنته بفعل التذكُّر، ألا وهي قدرته على إعمال الفنّ لتخليد التجربة الآيلة بطبعها إلى الزوال. ولكن ربّما ثمّة ربطٌ أعمق، فطن إليه “دولوز” جزئيًّا عندما أكَّدَ قائلًا: “إنَّ عمليّات التذكُّر هي مجازات الحياة، والمجازات هي عمليّات تذكُّر الفنّ. هنالك قاسم مُشترك بينهما: التذكُّر والمجاز يحدِّدان الصلة بين شيئين مُختلفين كلّيًّا، لإسقاطهما من احتماليّات الزمن. لكنَّ الفنَّ وحده هو الذي ينجز ما أعدَّته الحياة. أمّا عمليّات التذكُّر التي تنفِّذها الذاكرة اللاإراديّة فهي حياةٌ محض: فنٌّ على مستوى الحياة، فهي مجازاتٌ رديئة” (دولوز، مارسيل بروست والعلامات).

نحن نرى أنَّ التقارب بين المجاز والذاكرة لا يقتصر على هذا فحسب، إنّما يستدعي هويّةً بنيويّة، مشاعيّةً بالرؤى والأهداف تجعل مساراتهما ونتائجها مُتناسقة. فمثلما يتعايش في المجاز نقدُ الأفكار واقتراحُ المنظور الواجب اتِّباعه، كذلك تكون استعادة الماضي بعمليّة التذكُّر مسبوقةً بتفكيك النظم الزمنيّة: المجازات تعيد توصيف العالم بإبراز علاقات مُتشابكة جديدة، والتذكُّر يعيد تصوير التجربة المُنقضية بإرساء صلات جديدة بين الماضي والحاضر. وبالتالي، مثلما تُشكِّكُ المعرفة المجازيّة بنظمٍ معرفيّةٍ أخرى، كذلك تُشكِّكُ استعادةُ الماضي القويمةُ بأشكال الذاكرة التي تحجب معنى هذا الماضي: الذاكرة الإراديّة، باعتبارها ذاكرة العقل، من جهة، والذاكرة الاعتياديّة أو ذاكرة التعوُّد، من جهةٍ أخرى.

ما بعد الحدود الزمنيّة:

“كثيرًا ما أويتُ إلى سريري في ساعةٍ مُبكرة. وكانت عيناي أحيانًا، حالما أطفئ شمعتي، تغتمضان بسرعةٍ لا تدع لي مُتّسعًا من الوقت أقول فيه: “إنّني أنام”. وبعد نصف ساعة توقظني فكرة أنَّ الوقت حان للبحث عن النوم، […]”. (ص 87).

تكشف الجمل الأولى للرواية عن موضوعةٍ سيتوسَّع الحديث عنها خلال العمل كلِّه: موضوعة النوم، والأحلام، والاستيقاظ. وليس من الصدفة أن تُقدِّمَ افتتاحيّةُ البحثِالحكايةَ في غرفةٍ مُظلمة- غرفة نوم الراوي- وأن يتولّى “النائمُ اليقظُ” مهمّة استحضار الزمن المفقود. ومن الضروريّ أن نتساءل عن المعنى الذي ينسبه بروست للنوم واليقظة بحيث يمنحهما دورًا على غاية الأهمّيّة في هذا البناء الروائيّ.

يُصرُّ بروست على الفرق الجذريّ بين عالم النوم وعالم اليقظة. فبالنوم ندخل مجالًا تتعطَّلُ فيه مفاهيم اليقظة وتصوُّراتها، ويُستعاض عنها بأفكارٍ من نوعٍ آخر، ومفاهيم حسّيّة وإدراكيّة مُختلفة. وبالتوازي مع هذا، ندخل في بُعدٍ زمنيٍّ مُغاير، يُمحى فيه الخطُّ الزمنيُّ الذي يتحكَّم بعالم اليقظة: ربع الساعة تبدو نهارًا كاملًا؛ نخال أنَّنا غفونا قليلًا فإذا بنا ننام اليوم كلّه. ويرتبط انقلاب النظائر الزمانيّة والمكانيّة بتبدُّلٍ لحظيٍّ للمسارات الطبيعيّة للذاكرة. وقد نغطُّ في نومٍ عميق حيث- كما يقول بروست في موقعٍ مُتقدِّمٍ من الرواية- تتبدّى لنا العودةُ إلى الشباب، واسترجاع السنوات المُنقضية، والمشاعر المفقودة. بالحلم يمكننا أن نتذكَّرَ حلقاتٍ باتت ممحوَّةً من ذاكرتنا الواعية، وبذلك تطلع على الضوء أحداثٌ من حياتنا كانت مُهمَلةً في الظلّ. ورغم هذا، يشهد دخولُنا مملكةَ العقل الباطن كسوفًا لذواتنا يعمل على تفتيت واقع الأشياء المُحيطة بنا: ننفصل عن حياتنا وننسى مَن نحن وماذا نفعل؛ ولا يطغى النسيان على المشاكل والمشاغل اليوميّة فحسب، إنّما على الوعي بهويّتنا أيضًا. وهذا ما يُفسِّرُ أنَّنا إبان الاستيقاظ نواجه صعوبةً في إعادة ضبط إدراكنا للوضع الراهن، وإعادة ربط خيوط وجودنا برمَّته.

يُخصِّصُ بروست للحظة الفاصلة بين النوم واليقظة- لحظة الاستيقاظ الحبلى بالتداعيات رغم قِصَرِها- تحليلًا دقيقًا في الصفحات الأولى من “جانب منازل سوان”، أي في افتتاحيّة العمل الروائيّ بمُجمله. يبرز صوت الراوي في البدء من ظلمةٍ دامسة في قلب غرفةٍ مجهولة وفي أثناء مُدَّةٍ غير مُحدَّدة: المُتحدِّث هو النائم اليقظ، لا وجه له ولا اسم له، ولا نستطيع حتّى أن نتكهَّنَ بعمره وحالته. على أنَّ غياب المراجع المكانيّة والزمانيّة يناسب الراوي الذي يتتبَّع أفكاره المُتقطِّعة والمُتزعزعة، عاجزًا عن تلمُّس الحدِّ الفارقِ بين مُختلف الأمكنة والأزمنة التي عاشها فيها وخلالها. ما يُسفِر عن حالة ارتباكٍ جذريٍّ يبدو للوهلة الأولى أنَّه امتدادٌ للفعل التفكيكيّ الذي يتفرَّد به النوم. ورغم هذا، إذا ما قرأنا النصَّ البروستيّ بإمعانٍ وتركيز، وجدنا أنَّ الاستيقاظ يُبيِّنُ الشعور بالاغتراب والتجرُّد عن الذات:

“إنَّ امرأً ينام يمسك في دائرةٍ من حوله بتسلسل الساعات وتراتب السنين والعوالم. وهو يسترشدها بالغريزة إذ يستيقظ فيقرأ فيها في مدى ثانيةٍ واحدةٍ النقطةَ التي يشغلها على الأرض، والوقت الذي انقضى حتّى استيقاظه. ولكنّما يمكن أن تختلط صفوفها وتنفرط. فإن تملَّكَه النوم وهو يقرأ، بعد أرق، في أوّل الصباح، وفي وضعٍ يغاير كثيرًا الوضع الذي يتّخذه عادةً في نومه فإنَّ ذراعه المرفوعة تكفي لإيقاف الشمس وحملها على التراجع، ولن يعرف الساعة في أوّل دقيقة من استيقاظه وسوف يحكم أنّه نام مُنذ قليل. […] على أنّه كان يكفي أن يجيء نومي في سريري عينه عميقًا وأن يريح فكري تمامًا، حينئذ كان هذا الأخير يتخلّى عن مُخطّط المكان الذي نمت فيه. وحينما أستيقظ في مُنتصف الليل لا أعرف في اللحظة الأولى من أنا لأنّني أجهل المكان الذي أنا فيه. وما كنت أملك سوى الإحساس بالوجود في بساطته الأولى وكما يمكن أن يهتزّ في أعماق الحيوان”. (ص 88).

في حين أنَّ للنوم فضاءه الخاصّ، وزمنه الخاصّ، فإنَّ لحظة الاستيقاظ تتشكَّل في منطقةٍ حدوديّة- تشبه “اللامكان”- وتُمثِّلُ لحظة عبور بسيطة- تشبه “اللازمان”- بين النوم واليقظة. وفي هذا الشرط من الغياب، يخضع المُستيقظ لصدمةٍ مزدوجة: صدمةٌ مُرتبطةٌ بهجران المملكة الليليّة من جانب، وصدمةٌ مُرتبطةٌ بالعودة إلى المملكة النهاريّة من الجانب الآخر. وفي التأرجح بين المملكتين يخفق في تفادي الضربات التي تأتيه من الجانبين كليهما: فإن خلَّفَ وراءه زمنَ الحلمِ المُتخلخلَ، والفضاءَ الذي أقفَرَ جرَّاء تلاشي خيالات المنام، فلا ينفتح أمامه سوى زمان- مكان غير مُستقرّ، يدور حوله كلُّ شيء “أشياء، بلدان، سنون” في دوَّامة الظلام. فمثلما أنَّ الجدران اللامرئيّة تُبدِّل شكلها وفقًا للغرفة المُتخيَّلة، كذلك الأجزاء الزمنيّة لوجوده لا تتوقَّف، ولا تتَّخذ موطئًا على خطٍّ واحد. وبينما يحاول عبثًا أن يستوعب في أيّ موقعٍ من الوقت رماه الاستيقاظ، تمتزج الأعوام والتجارب المُنقضية وتختلط فيما بينها:

“كانت هذه الاستذكارات المحوّمة الغامضة تدوم بضع ثوان فحسب. وغالبًا ما لا يميّز ارتيابي في المكان الذي أنا فيه بين مُختلف الفرضيّات التي تؤلِّفه أكثر ممّا نفرِّق، إذ نرى حصانًا يجري، بين الأوضاع المُتتالية التي يوضِّحها لنا الكينوتوسكوب”. (ص 89).

لعلَّ “فالتر بنيامين” قد أشار بفطنةٍ ثاقبةٍ إلى الاغتراب المُرتبط بالاستيقاظ في رواية بروست: “أليس الاستيقاظ خلاصة أطروحة الوعي المناميّ وخلاصة نقيض أطروحة الوعي الصحويّ؟ فلا بدَّ أن تكون لحظة الاستيقاظ مُطابقةً إذًا للحظة المعرفة التي ترتدي الأشياء في خلالها وجهها- السورياليّ- الحقيقيّ. وكذلك لدى بروست، يكتسب الاستيقاظ أهمّيّةً قصوى تعادل الحياة حينما تكون عرضةً للانهيار” (فالتر بنيامين، Das Passagen-Werk). أي إنَّ انقلاب النظائر الزمنيّة، ومعها نسيان الذات، والإدراكات المُتراكمة، والعادات المُكتسبة، تحيي ذاكرةً لا تخضع للعقل، إنّما مُتعلِّقة بالأثر غير المحسوس الذي خزَّنَه جريان الوقت في خلايا أجسامنا:

“ويحاول جسمي […] أن يُحدِّد وضع أعضائه فسيتخلص من ذلك اتّجاه الحائط وموضع الأثاث ويعود فيبني المنزل الذي يقيم فيه ويسمّيه. وتأتيه ذاكرته، ذاكرة ضلوعه وركبتيه ومنكبيه على التوالي بالعديد من الغرف التي نام فيها، فيما “تزوبع” في الظلمة من حوله الجدران اللامرئيّة فتبدّل مكانها وفقًا لشكل الغرفة المُتخيّلة. وقبل أن يتعرّف فكري المُتردّد على عتبة الأزمنة والأشكال المسكنَ بالمُقاربة بين ظروف الذكرى، كان جسمي يتذكّر، فيما يخصّه، نوع السرير وموقع الأبواب ومأخذ النور من النوافذ ووجود ممرّ بالنسبة إلى كلٍّ منها ويتذكر معها التفكير الذي ينتابني حينما أنام فيها وأعود فألقاه لدى استيقاظي”. (ص 89).

تُبنى ذاكرة الاستيقاظ على أحاسيس الجسد ورسائله، التي تبدو أنَّها الخيوط الوحيدة الناظمة لعمليّة البحث، فتصبح ذاكرة الاستيقاظ بذاك ذاكرةً “عضويّة”: نوعٌ من ذاكرةٍ نقيّة، لم تخضع بعد لإرادة تخطيط الوجود من منظورٍ عقلانيّ، لذا من المُمكن تثبيتها حتّى في لحظات شلل الذاكرة الواعية. وحيث يضطرُّ العقل إلى التوقُّف، في اللحظة التي تتهاوى فيها كلُّ الذرائع المنطقيّة التي اعتدنا التشبُّث بها، تُزوِّدنا الذاكرة العضويّة بمنفذٍ مُناسب، فهي المُؤتمنة على حفظ الماضي الذي لا ينبغي للعقل أن ينساه، وتُكذِّبُ لُقاها غير المتوقَّعة فاعليّةَ الاسترجاع المُجرَّد لزمنٍ مبنٍ على استخدامٍ فكريٍّ ونمطيٍّ للذاكرة.

لكن كيف تساهم الذاكرة العضويّة باكتشاف مفهومٍ جديدٍ للزمن وصياغته؟ نلاحظ أنَّ البحث الذي يجريه النائمُ اليقظُ في الظلام، يُوسِّع الأفق الزمنيّ لليقظة بشكلٍ كبير. وبالفعل، رغم أنَّ الهدف الأوَّليَّ هو منح اسمٍ للبيت الذي يجد نفسه فيه، يتراجع هذا القرار بسرعة ليفسح مجالًا لعمل الذكرى: تتبدَّد ضرورة إعادة ربط خيوط الحاضر المُمزَّقة، ويستطيع النائم اليقظ أن يُركِّزَ ذاكرته على الإشارات التي يرسلها الجسد، والقادرة على الظهور في ذاكرةٍ “لا مبالية”. تسفر لحظة الانتقال من النوم إلى اليقظة عن تمزُّقٍ في النسيج المُتجانس للزمن المُنظَّم، وتتنامى الحاجة إلى صياغة منظورٍ زمنيٍّ مبنٍ بوساطة العقل، أي بوساطة المجاز. فصور الغرف التي نزل فيها الراوي في الماضي تتفتَّح في الذاكرة بطريقةٍ مجازيّة: عوضًا عن التفكير فيها مُتجرِّدًا، يرى النائم اليقظ تلك الغرف القديمة ثانية معوِّلًا على “أخطاء” الذاكرة العضويّة. ومثلما تراود رؤيَتَنا الأولى توهُّماتٌ بصريّة، تتَّسم أوهام الجسد بغموضٍ وعدم ثبات، فتجعلنا نظنُّ أنَّنا في غرفةٍ ونحن في أخرى، وتستدرجنا إلى مسارٍ يعيد نمذجة إدراكنا للحاضر:

“كان جنبي المشلول يحاول تخمين اتّجاهه؛ فيتخيّل مثلًا أنّه مُمدّد قبالة الجدار في سرير كبير بستائر، وكنت في الحال أخاطب نفسي قائلًا: “عجبًا، أنام مع أنّ أمّي لم تجئ لتتمنى لي ليلة سعيدة” فقد كنت في الريف في منزل جدّي الذي توفّي مُنذ سنوات عديدة. وكان جسمي والجنب الذي أنام عليه […] يعيدان إلى ذهني لهب “النواصة” المصنوعة من زجاج بوهيمي على شكل جرّة تتدلّى من السقف بسلاسل صغيرة، والموقد المُغطّى برخام سيينا، وذلك في غرفة نومي في “كومبريه” في منزل جدّي ولأيام بعيدة، الآن أتخيّلها في هذه اللحظة حاضرة من دون أن أتصوّرها بالضبط […] ثمّ تنبعث ذكرى وضع جديد فيهرب الجدار باتّجاه آخر: إنّني في غرفتي في منزل السيّدة دو سان لو، في الريف!” (ص 89).

تتأتّى عمّا سبق نتيجتان: الواقع القائم يترك مكانه لواقعٍ مُتخيَّل؛ والترتيب الزمنيّ يخضع لاستكمالٍ مُماثل يضفي على الحدث الماضي يقين اللحظة الحاضرة. لذا فإنَّ المبدأ الذي يُنشِّط هذه الرؤى مجازيٌّ، مثلما هي ثمرة تحوُّلاته المتواصلة. فليس من الصدفة أن يضع بروست مسألة الاستيقاظ في افتتاحيّة حكايته الطويلة. لأنَّ استذكاراته اللحظيّة تتدفّق بسرعة خارقة، فلا تقوى ذاكرته المُتخبِّطة على اللحاق بمجراها:

“تحرّكت ذاكرتي؛ وكنت لا أحاول في الغالب أن أعود إلى النوم، فأمضي القسم الأكبر من الليل في استذكار حياتنا السالفة في كومبريه لدى شقيقة جدّي، وفي بالبيك وباريس ودونسيير والبندقية وفي أمكنة أخرى، وفي تذكّر الأمكنة والأشخاص الذين عرفتهم فيها وما رأيته منهم وما روي لي عنهم”. (ص 90).

بالعمل على إعادة النظر في مجازيّة الزمن والذاكرة، تُقدِّم لحظة الاستيقاظ مُنذ الصفحات الأولى مفتاحًا لقراءة الرواية التي سوف تتّضح تدريجيًّا في الأجزاء اللاحقة وحتّى النهاية. يبقى صحيحًا أنَّ الذكرة العضويّة “كمثل الذاكرة غير الواعية التي يُفعِّلها النوم والأحلام” ليست الطريقة الحقيقيّة لاستعادة الزمن المفقود: فهذه الغاية تتطلَّب تجلّيات الذاكرة اللاإراديّة، التي بميزتها المجازيّة الصريحة تتيح إعادة توصيف التجربة المُنقضية بمجملها. ولكن، ما بين الذاكرة العضويّة والذاكرة اللاإراديّة ثمّة نوعيّة أخرى من إحياء الماضي واستيعابه: الذاكرة العاطفيّة.

هامش:

كلُّ الاقتباسات من رواية “البحث عن الزمن المفقود”، الجزء الأوّل “جانب منازل سوان”، بترجمة د. الياس بديوي.

اقرأ أيضاً