الفنّ والمُقدَّس

ليديا سالڤيوتشي إنسوليرا/ إيطاليا

 1- من القديم وحتّى الحضارات والديانات القديمة

لا شكَّ أنَّ رغبة الإنسان في التبليغ من خلال التعبير الفنّيّ ضاربةٌ في القُدِم. وهنالك نقوشٌ تعود إلى العصر الحجريّ، تصوِّر النباتات والحيوانات والصيَّادين، عُثِرَ عليها في كهوفٍ ما بين جبال الأورال شرقًا وشواطئ الأطلسيّ غربًا. لا تشهد هذه التمثُّلات على قدرة الحجريّين على مُلاحظة الواقع المُحيط بهم ورسمه فحسب، إنّما بالإمكان اعتبارها شيفرة رمزيّة تُعتَمد أثناء إقامة الطقوس السحريّة- الدينيّة.

في آسيا، القارّة ذات التقاليد الدينيّة المُتجِّذرة، لطالما اعتقد الإنسان أنَّ للفنون جميعها أصلًا إلهيًّا يتمظهر في عمل الفنَّان. إلّا أنَّ الصورة الفنّيّة المُتقنة لا تحلّ محلَّ الصورة الذهنيّة إطلاقًا، إنّما تبقى مُجرَّد وسيلة صالحة للتبليغ والمعرفة: “الصورة منشأها الإله، لكنَّها ليست موضع عبادة، بل أداة للتأمُّل ووسيلة مُساعدة من أجل الإدراك” (كوماراسوامي).

الإله في جميع الديانات هو الفنَّان الأسمى دائمًا. وإنَّ هذا التأكيد، في التقاليد الصينيّة الطاويّة، يفضي إلى تداعيات قصوى: فالفنَّان الصينيّ، الذي يخلق عملًا مُتقنًا إلى أبعد الحدود، يضطّر إلى الاختفاء، لأنَّه بذلك قد يصبح شريكًا لإبداعيّة الإله التي لا تفنى.

في اليونان كان الفنُّ يؤدّي وظيفةً مزدوجة. فالتماثيل العديدة التي كانت تزيِّن المعابد المُنتشرة في جميع المناطق (البارثينيون في أثينا، ومعبد زيوس في أوليمبيا، ومعبد أبولو في دلفي إلخ) كانت تؤثِّر في الناس مُباشرةً، لما تظهره تلك المنحوتات، في تمثيلها للآلهة والفرسان والأبطال الرياضيّين، من أنموذجٍ مثاليٍ يُحتذى وموعظةٍ أخلاقيّةٍ تُقتدى. لذا كان الإغريق يتماهون بهذه الأعمال، وغالبًا ما تسهَّلَت عمليّة المُحاكاة هذه بواقع أنَّ الفنّ ينتهج أسلوبًا ذا نزعة طبيعانيّة. وكان الكمال التقنيّ جوهريًّا- كلمة فنّ بالإغريقيّة هي “téchne“/ تقنيّة، بمعنى القدرة الحِرَفيّة بالضبط- وكلَّما ازداد تقدير الأعمال الفنيّة على كمالها، أصبحت وسائل ناجعة لتبليغ المواضيع التي تمثِّلها. الفنّ والحال هذه كان يؤدّي وظيفةً تعليميّة أيضًا.

التصاوير الفنّيّة للآلهة عند الرومان شاهدٌ آخر على هذا التمثُّل الوثنيّ. فهو “يجعل الإلهيَّ مرئيًّا بالجمال الجسمانيّ والمثلنة السامية للشكل فقط، ما يؤدّي إلى ظهور الشكل الإلهيّ الوثنيّ مُكتملًا في ذاته: وأيُّ إحالة على شيء آخر أرفع منه هي غريبة عنه كلّيًّا” “بفيفر”. فكان نتيجة هذا هي أنَّ التصاوير الفنيّة للآلهة غدت أوثانًا: لم تعد تعتبر صورًا تحيل على إلهٍ ذي أبعادٍ مُتسامية، بل أصبحت هي نفسها الإله الذي يجب عبادته.

2- الفنّ في الثقافة اليهوديّة:

في الديانة اليهوديّة كذلك يُستَخدَم الفنُّ ويُقبَل بصفته تجلّيًا مُباشرًا للوجود الإلهيّ، حتّى إنَّ الربَّ نفسه يشارك في إخراج الفنّ: “ستصنع كروبين من ذهب” (سفر الخروج، 25، 18): لكنَّ حضور الأعمال الفنيّة، التي أرادها الربُّ بشدّة، يطرح تساؤلات حول التحريم الإلهيّ لرسم الصور. ففي العهد القديم نرى أنَّ الربَّ بذاته يملي على مُوسى تحريم الصور: “لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا صورة ما ممّا في السماء من فوق وما في الأرض من أسفل وما في الماء من تحت الأرض” (سفر التثنية، 5، 8). وقع تحريم استعمال الصور لأنَّ الربّ روحٌ محض، لا يشبهه أيُّ واقعٍ جسمانيّ، فلا يمكن للإنسان أن يمثِّله بأيّ صورة من دون أن يسقط في إثم الوثنيّة. ويدافع يوحنّا الدمشقيّ عن تصوير الربّ، مُفسِّرًا بأنَّ تحريم ذلك بالنسبة إلى اليهود ما وقع إلّا لمنع عبادة الأعمال الفنيّة على أنَّها الذات الإلهيّة. ويدعم وجهة نظر الدمشقيّ الكشفُ الأثريّ الذي جرى عام 1932م في دورا أوروبوس “سوريا” لكنيسٍ يهوديّ جدرانه زاخرة بالأفريسك من رسومات مُستمدّة من الكتاب المُقدَّس، ويعود هذا الكنيس إلى القرن الثالث بعد الميلاد تقريبًا.

3- الفنّ المسيحيّ، وتاريخ الإيمان:

3.1 من عقيدة التجسُّد إلى التعبير الفنّيّ

“الذي رآني فقد رأى الآب” (إنجيل يوحنّا، 14، 9). خرجت المسيحيّة باكرًا عن العرف اليهوديّ باستحالة رسم الربّ، وذلك استنادًا إلى أنَّ الربَّ تجسَّدَ في يسوع الناصريّ، فقد جعل صورته مرئيّةً في الوجه الإنسانيّ ليسوع، ما يعني أنَّه منح الإنسانَ إمكانيّة اختبار اللامرئيّ. يشكِّل الفنُّ عند المسيحيّين وسيلةً للمُشاركة في التجسُّد، ما ينزع عنه الغموض. وقد أنتج هذا المبدأ طريقةً إدراكيّة لدى العامّة من غير المُتعلِّمين، ترسِّخُ تبادلًا وطيدًا بين الكلمة والصورة الفنّيّة، بحيث يستعان بالصورة للاستيعاب وأداء الصلوات. فالكلمة تبيِّنُ ظهور الربّ، والصورة تؤكِّد تجسُّده.

3.2 نزاعات تحريم الأيقونات في الشرق

يتركَّز الفنُّ التصويريّ في الشرق على خلق صورة المسيح، فينبغي للفنّانين أن يحقِّقوها من خلال تقنيّةٍ صارمة تتناقلها الأجيال. وهذا ما يفسِّر عدم تغيُّر الأسلوب في الصور الفنيّة الشرقيّة: الأيقونات. فنور الربّ يشفُّ من الألوان، وللمادّة التي تُصنَع منها الأيقونة قدرةٌ على إبراز المجد الإلهيّ، فيبجِّلها المُؤمن لأنَّها تضعه باتّصال مُباشر مع الربّ من خلال الرؤية. وقد تمخَّضَ هذا الإدراك عقب حقبة طويلة من النزاعات والسجالات. ما بين العام 726م والعام 843م شنَّ البلاط الامبراطوريّ للقسطنطينيّة مُعارضةً شرسة ضدّ الصور. وأقرَّ المدافعون عن الصور المُقدَّسة وجود صلةٍ عميقة بين الإيمان والفنّ لا تخضع للنقاش. وبعد هذه الواقعة الأليمة تعزَّز اليقين بأنَّ على الصورة- الأيقونة أن تمثِّلَ المسيح في طبيعتيه: البشريّة والإلهيّة.

3.3 تشكيل اللغة الفنّيّة في الغرب

تناغمت الكنيستان الشرقيّة والغربيّة بما يخصّ طرائق التعبير عن المُقدَّس، لغاية سقوط الامبراطوريّة البيزنطيّة على يد الأتراك عام 1453م. ورغم هذا، كان انتشار الأنظمة الدينيّة في أوروبا قد جاء بموجاتٍ فنّيّةٍ جديدة، تركِّزُ أكثر على العاطفة والطبيعة. بل وحتّى طريقة تمثيل العالم شهدت تغيُّرات: بات يُنظَر إلى العالم أنَّه في فضاء فارغ ثلاثيّ الأبعاد، وغير محدود. وقد دفع هذا المفهوم في ذروته إلى تبنّي المنظور الاتّجاهيّ، أي توجيه جميع الخطوط نحو نقطةٍ مركزيّة، مُتّسقة مع عين المُشاهِد. في حين أنَّ تمثيل الضوء الطبيعيّ ما زال يحافظ على معناه الرمزيّ: النور الإلهيّ الذي يضيء المشهد، مُتمثِّلًا بأشعّةٍ آتية من الفضاء اللامحدود. ونزع الفنّانون إلى تكثيف درجة الألوان، التي إذ يضيئها النورُ الإلهيُّ تتميّز بحيويّةٍ فائقة.

وبات الفنّ المسيحيّ يعتبر مُلتقىً لثلاثة مفاهيم أساسيّة: الواقعيّة، المثاليّة والرمزيّة.

يُقصَد “بالواقعيّة” التاريخ الفعليّ ليسوع، المُرتبط بآلام المسيح على وجه الخصوص. فلا بدّ أن ينحو الرسم إلى إظهار آلام المسيح كما هي. ومن جهةٍ أخرى، يعبِّر الفنّ المسيحيّ عن الجمال الإلهيّ، فإذا كانت الواقعيّة تعنى بالطبيعة البشريّة ليسوع، تعنى المثاليّة بإبراز طبيعته الإلهيّة، فمن الضروريّ التعبير عن حضور الربّ في التجسُّد، وذلك للتذكير بأنَّ يسوع في آلامه أظهر وجه الربّ تمامًا، ولإثبات أنَّ الذي يتألّم ويموت شهيدًا هو الرابح الحقيقيّ. تتبدّى المثاليّة في الفنّ المسيحيّ عبر البحث الجماليّ عن الأشكال، والتناغم الأسلوبيّ المدروس، بغية تمثيل الجمال الكامل لوجه يسوع وجسده، بالاعتماد على الأسلوب الكلاسيكيّ الإغريقيّ- الرومانيّ. لكنَّ الإخراج الفنّيّ لا يحتوي بطبيعة الحال على كلّ معاني الإيمان، فهو مُجرّد مرحلة عبور نحو الاتّحاد بالربّ. وهنا يأتي دور الرمزيّةالتي تظهر بوضوحٍ تارةً وتتخّفى خلف الاستعارات والرموز المُعقَّدة تارةً أخرى.

3.4 العمارة المسيحيّة

تؤدّي العمارة المسيحيّة وظائف روحانيّة وحياتيّة على حدٍّ سواء. فالمكان المُقدَّس، المُخصَّص للصلاة، ينبغي له أن يكون عمليًّا، ومُهيَّأ لاستقبال أعداد كبيرة من المُؤمنين لأداء الشعائر والطقوس. فلطالما شعر المسيحيّون بأنَّ الكنيسة مكانٌ اجتماعيّ، والدليل على ذلك مُشاركتهم في بنائها ما بين القرن الحادي عشر والرابع عشر، في عصر تشييد الكاتدرائيّات الضخمة. أمّا الأسلوب، فكان في البدء مُتَّسمًا بالزهد والمحدوديّة، إلى أن اختمرت فكرة الاتّحاد بالربّ، فصارت المعابد تتّخذ أشكالًا معماريّة متطاولة نحو الأعلى، وزجاجيّات عملاقة من أجل ملأ الكنيسة بالضوء، وهذا ما سُمِّيَ بالفنّ القوطيّ. إذ إنَّ الكنائس وأديرة الأنظمة الدينيّة تعكس روحانيّة القدِّيسين المُؤسِّسين، ما يجعل الفنَّ يعبِّر عن الطرائق المُختلفة بعيش تجربة الإيمان.

3.5 وظائف الفنّ المسيحيّ

أ. وظيفة تأمُّليّة: يحضِّر الفنُّ المسيحيّ حوارًا مع الربّ من خلال الصلاة وعبر أشكال تعبيريّة حسّاسة، فيفضي التعبير الفنّي إلى التأمُّل. والمثال الأبرز على هذا تقدِّمه الأيقونة الشرقيّة، بوصفها سبيلًا أساسيًّا للصلاة. ويمثِّل الفنّ المسيحيّ اقتران الإنسان بالذات الإلهيّة، فيستطيع المُؤمن من خلاله الإقدام بوساطة التأمُّل على الانتقال من المرئيّ إلى اللامرئيّ. بخلاف ذلك لم تركِّز التقاليد الفنّيّة الغربيّة على الوظيفة التأمُّليّة للفنّ، لتعطي حيِّزًا أوسع للجانب التفسيريّ من الفنّ.

ب، الفنّ المسيحيّ أداةً للذاكرة: في التاريخ المسيحيّ برزت ضرورةٌ مُلحّة لتناقل حقائق الإيمان، والحفاظ عليه حيًّا على الدوام في قلب كلّ مُؤمن. وقد عمل كثيرٌ من المسيحيّين، أثناء التحريم البيزنطيّ للأيقونات، على الدفاع عن أهمّيّة الصورة، ومن بين هؤلاء يوحنّا الدمشقيّ، الذي كتب في القرن الثامن عن معنى الصورة المُرتبط بالذاكرة: فمن خلال تصوير حياة يسوع، وعذاباته ومُعجزاته، يذكر المُؤمن أنَّ الربّ، الكلمة، تجسَّدَ بصورة إنسان من أجل نجاة العالم.

ج. وظيفة تفسيريّة، تعليم أصول الدين: الفنُّ أداةٌ تسمح للإنسان بالحصول على تعليمٍ سريع ومُباشر للمفاهيم المسيحيّة. وهو أداةٌ لتعليمٍ فعَّال على كافّة المستويات: من المرحلة الأولى الأبسط لغاية تعلُّم الموضوعات اللاهوتيّة الأعقد، تتطلَّب من المُؤمن تأهيلًا مُتقدِّمًا. وقد ثبتت هذه الوظيفة المُهمّة مُنذ القرن السادس عندما أعلن القدّيس غريغوريوس الأكبر عن تأييده للصور، مُؤكِّدًا على أنَّ الذين بلا ثقافة يتسنّى لهم تعلُّم أصول الدين بالنظر إلى الجدران، إن كانوا لا يجيدون القراءة. فالصور كتاب الفقراء (BibliaPauperum)، تتيح اتّصالًا مُباشرًا مع الدين. وهذا هو المبدأ الأساسيّ الذي قامت عليه التصاوير في داخل الكنائس والكاتدرائيّات. وحتّى المُبشِّرون استعانوا بالصور الفنّيّة لتوضيح ما يشرحونه بالكلمات آنيًّا.

د. الفنّ المسيحيّ بصفته زينة: إنَّ المبدأ الجماليّ المُطبَّق في التزيين شائعٌ لدى الخلائق كلّها بما أنَّه مُستمدٌّ من الربّ. والمثال الأوّل على التزيين مكوَّنٌ من النبات والأزهار والفواكه والطيور إلخ: الخليقة برمَّتها هي من مشيئة الربّ، الذي خلقها لتشارك في تمجيده. وفي الفنّ، تدور في مدار الصورة المركزيّة ليسوع مجموعةٌ من التصاوير- بهدف التزيين- وتساهم في التأكيد على وجود الربّ. وما استخدام الموادّ النفيسة- الذهب والفضّة والأحجار الكريمة- إلّا لإثبات الوجود الإلهيّ، بفضل الثراء الذي تعبِّر عنه. كما أنَّ لهذه الموادّ الثمينة معانٍ رمزيّة عميقة، توضع في خدمة العبادة.

هـ. الفنّ سببًا للصراعات الدينيّة: في مطلع القرن السادس عشر انتشرت في شمال أوروبا موجةٌ جديدة من تحريم التصوير، لتشهد مرَّةً أخرى على الرابط الوثيق ما بين الدين والفنّ. بدايةً مع مارتن لوثر، ثمّ مع جان كالفن وهولدريخ زوينكلي: انتقد هؤلاء الكنيسة المُعاصرة لهم، في المسائل اللاهوتيّة، ولكن أيضًا في المسائل الفنّيّة. فلقد تعزَّزت لديهم ضرورة إلغاء كلّ الأشكال الفنّيّة بسبب ضخّ الكثير من الأموال على الصور. وفي غضون بضعة أعوام تعرَّض عدد كبير من الكنائس للسطو، وعدد كبير من الأعمال الفنّيّة للتخريب. ومن جديد، أضحى الفنّ ساحة صراع حقيقيّة، مثلما كان عليه الأمر في عصر تحريم الأيقونات البيزنطيّ. الأمر الذي دفع الكنيسة الكاثوليكيّة إلى التشديد على دور الفنّ وإسهامه الجليل بنشر الإيمان والحفاظ على عنفوانه لدى الشعوب. ما فتح الباب على مصراعيه لتناول هذه الموضوعات المسيحيّة بأسلوبٍ أكثر تعبيريّة: وهذا ما درجت تسميته بالعصر الباروكيّ.

الفنّ الدينيّ المُعاصر:

في القرنين الأخيرين، وعقب تحييد الدين عن المُجتمع، انطفأ ذلك الرابط الحميم بين الإيمان والواقع الإنسانيّ، ونتيجةً لهذا هُمِّشَ البحث الفنّيّ المسيحيّ. وصار المُقدَّس يُستَبدل بخفايا العقل الباطن، أو يُلغى كلّيًّا. كما أنَّ الإنسان، بعد أن كفَّ عن الشعور بضرورة الحضور الإلهيّ، لم يعد يجد في الإخراج الفنّيّ المسيحيّ أيّ جدوى. ففي الماضي كان الفنّ المسيحيّ يمثِّل نقطة ارتكاز تدور في فلكها كافّة الوقائع الفنّيّة الأخرى، في حين أنَّه الآن انحسر إلى محاولات فرديّة، لبعض الفنّانين الذين شعروا أثناء بحثهم الوجدانيّ بضرورة العمل على مواضيع مسيحيّة. وإنَّ هذا الفنّ المسيحيّ ينبع من تجربة إيمانيّة مُباشرة، فيتميَّز العمل الفنّيّ الدينيّ الحديث بروحانيّةٍ شديدة وغالبًا ما تكون مأساويّة، تقاوم وسط سياقٍ ثقافيّ يبدو أنَّه ينكرها. إذ إنَّ كوارث الحربين العالميّتين، والتفاوت الاقتصاديّ المريع، والفروقات الاجتماعيّة والعرقيّة دفعت الفنّانين إلى التوقُّف جوهريًّا عند صورة يسوع وآلامه. فعلى سبيل المثال، يُقدِّم جورج رووه 1871-1985م- أحد أهمّ المُمثِّلين عن الفنّ المسيحيّ في القرن العشرين- يُقدِّم عديدًا من اللوحات التي تصوِّر يسوع في أشدّ عذاباته، مُحدثةً صدمةً عاطفيّة عاتية، ومرسومة بدرجات غليظة من اللون الأحمر والبنّيّ والأزرق، ومُصمَّمة بخدوشٍ حادّة ورهيبة. هذا وقد أقرّ المجمع الفاتيكانيّ الثاني 1962-1965م أهمّيّة الفنّ المُقدَّس: “الفنّ في عصرنا الراهن، لدى كلّ الشعوب والبلدان، لا بدّ أن يحظى في الكنيسة على حرّيّة التعبير، شرط أن يلبّي مُتطلّبات المُؤسّسات المُقدّسة والطقوس المُقدَّسة”.

المسيحيّة في حاجةٍ إلى الفنّ والفنّانين:

“الكنيسة، إذا أرادت البقاء وفيّة لوظيفتها، لا يسعها الاستغناء عن الفنّ”، هذا تصريح بولس السادس، البابا الذي أعاد فتح الحوار مع الفنّانين، حيث طالب في كلمته تجاوز سوء الفهم بين الكنيسة والفنّانين، لتوطيد الصداقة التي نادى بها في المجمع الفاتيكانيّ الثاني: “نحن في حاجةٍ إليكم. حكومتنا في حاجةٍ إلى تعاونكم، لأنَّها كما تعلمون تنطوي على الوعظ وتبيين عالم الروح، واللامرئيّ، الخارق للوصف، عالم الربّ. وأنتم مهرةٌ في هذه العمليّة، أي في صبّ العالم اللامرئيّ ضمن صياغات مُتاحة. هذه مهنتكم، ومهمَّتكم؛ وإنَّ فنَّكم يكمن في خطف الكنوز من سماء الروح، وإلباسها بالكلمة، والألوان، والشكل، والإدراك. وليس الإدراك بمعنى ما يفعله مُعلِّم الفلسفة، أو الرياضيّات، إذ يجعل كنوز عالم الروح مفهومة: إنّما بالحفاظ على استحالة وصف عالم الروح، وعلى معنى سموّه، وعلى ضرورة بلوغه بسهولةٍ ومشقّة في الآن ذاته. وإنَّ الحساسيّة Einfülung- أي القدرة على الإحساس بما لا يقوى الفكر على إدراكه والتعبير عنه- هي محور عملكم. وإذا ما فقدنا دعمكم، غدت حكومتنا عاثرة وحائرة، واضطرّت إلى القيام بمجهودٍ لتصبح هي نفسها فنّيّة، بل ونبوئيّة أيضًا. وللارتقاء إلى قوّة التعبير الفنّيّ عن الجمال الحدسيّ، لا بدّ من مُلائمة المُقدَّس مع الفنّ”.

اقرأ أيضاً