«المُترجم خائن»: أصل الحكاية

ما زال تعبير «المُترجم خائن» يشغل عناوين مُعظم النقاشات التي تتطرَّق إلى الترجمة، وتتناولها بصرف النظر عن أسباب تلك النقاشات ونتائجها. يرد التعبير وأشباهه على لسان كثيرٍ من العارفين في أمور الترجمة وغير العارفين على حدٍّ سواء، ويتمحور حول عددٍ لا يُستهان به من أبحاث الدارسين. وقد يستشهد به مُفكِّرٌ معروف، أو روائيٌّ، أو قارئٌ، أو فيلسوف، في الشرق كما في الغرب، إلى يومنا هذا. ويتعامل أكثرنا معه على أنّه حقيقةٌ ساطعة، لا مفرَّ من الانطلاق منها، ولا مناص من التوصُّل إليها، وذلك كلَّما حاولنا أن نتأمّل في ترجماتٍ معيّنة، أو أردنا أن نحكم على جدارة مُترجمٍ مّا. وفي المُقابل، يجد أغلب المُترجمين الحاليّين أنفسهم مُضطّرين إلى خوض سجالٍ للدفاع عن عملهم حيال ما يرونها تهمةً، وتبرئة خياراتهم في اللجوء إلى طريقةٍ بعينها من دون أخرى، والاحتماء بمفاهيم مُكرَّسة تُبالغ في إعلاء شأن المُترجم وتصنِّف مُهنته بمصاف المهن البشريّة الأنبل والأكرم، حتّى إنّها لا تدخِّر المجاز والأسطورة في سبيلها هذا، من قبيل: «الترجمة جسرٌ بين الحضارات، مُنذ انهيار برج بابل». فمن أين أتى ذلك التعبير؟ وما الذي جعل النخبة والعامّة تستمرئ استخدامه؟ ما أصله، وهل له جذورٌ لغويّة واشتقاقيّة؟ أسئلةٌ مشروعة سنحاول الإجابة عليها بالتعمُّق في مسارٍ تاريخيٍّ قد يكشف لنا عن مظاهر ثقافيّة وأبعاد علميّة.

تماشيًا مع روح العصر:

إبّان عصر الحداثة، انفتح العرب كغيرهم من الشعوب على القارّة الأوروبيّة، واستقوا منها العلوم والمعارف حتّى توطَّدت لديهم؛ لتصبح جزءًا من ثقافتهم المحلّيّة. وتسرَّبت مفاهيم تخصُّ الترجمة بطبيعة الحال، من بينها تعبير «الجميلات الخائنات».

يعود هذا التعبير إلى القرن السابع عشر، حينما تهكَّمَ الشاعر والفقيه اللغويّ الفرنسيّ جيل ميناج على طريقة المُترجم نيكولا بيرو دابلانكور بترجمة أعمال لوقيانوس الإغريقيّ، قائلًا: «تُذكِّرني بامرأةٍ أُغرِمتُ بها في مدينة تور، كانت جميلة لكنّها خائنة»[1]. وهكذا شاع هذا التعبير «Belles infidèles»، الساخر في طبيعته، للإشارة إلى الترجمات التي رغم جمالها لا تتّسم بالوفاء للنصّ الأصل[2]. كان القرن السابع عشر يشهد في تلك الفترة صعودًا للحركة الكلاسيكيّة الفرنسيّة، وتزايدًا لافتًا بالاهتمام بالآداب القديمة: لذا ارتأى تيّارٌ من المُترجمين– دابلانكور أبرزهم– نقل الأعمال الكلاسيكيّة، الإغريقيّة والرومانيّة، لجمهور تلك الحقبة الذي لم يكن على اطلاع كافٍ على الثقافة الكلاسيكيّة رغم تلهُّفه لها؛ فأقبل القارئ الفرنسيّ على قراءة الكلاسيكيّات بلغةٍ فرنسيّة مُنمَّقة وبديعة، وترجمةٍ حرّة لا تجد حرجًا في تعديل النصّ الأصل وتحريفه، وإسقاط ما ورد فيه من خدشٍ للحياء، ليتلاءم مع معايير العصر الأخلاقيّة وأذواقه السائدة. اختير دابلانكور عضوًا في الأكاديميّة الفرنسيّة؛ ما جعل لآرائه وزنًا واعتبارًا[3]، ليستمرّ هذا التيّار في تماديه على أصول الترجمة فرسَّخَ منهجيَّتَهُ في ترجمة الأعمال المُعاصرة أيضًا، حتّى بات يستهدف الأسلوب الأصل نفسه: إذ صرَّحَ المُترجم بيير لو تورنيه علانيةً في مُقدّمته لترجمة خواطر ليليّة للبريطانيّ إدوارد يونغ عن نيّته «استنباط يونغ فرنسيّ من يونغ الإنجليزيّ ليستمتع به القرّاء الفرنسيّون غير المُرغمين على التساؤل ما إذا كان الكتاب الذي بين أيديهم أصليًّا أم منقولًا»[4].

بكلّ الأحوال، فإنّ علم الترجمة، من منظورٍ أكاديميّ، يترفّع عن هذا التيّار جملةً وتفصيلًا. فمثلما أنّ الوفاء لا يندرج في منظومة الاصطلاح العلميّ، كذلك عدم الوفاء بعيدٌ كلَّ البعد عن أساسيّات الترجمة المُنضبطة والدقيقة والمُؤتمنة.

نزعة وطنيّة:

على أنّ ما أوردناه آنفًا لا يُشبِع فضولنا كلّيًّا، ولا بدّ لوجود أثرٍ سابقٍ توصَّلَ الباحثون إلى تحديده في المخطوطات السالفة. وبالفعل فإنَّ كثيرًا منهم يرى أنّ تعبير ميناج «الجميلة الخائنة» مُتجذّرٌ في الخطاب الثقافيّ الفرنسيّ، فهو مبنيٌّ على التهكُّم من جهة وعلى الرنين الصوتيّ السجعيّ من جهةٍ أخرى: [belle, infidèle]. كما أنّه لا يفسِّر بصورةٍ شاملةٍ ارتباطَ مفهوم الخيانة بالترجمة؛ ذلك أنَّ كلمة “infidèle” تعبِّر عن انعدام الوفاء أو انعدام الإخلاص، أو ما هو أبسط من الخيانة بصفتها السلبيّة القصوى المُتّفق عليها.

نحن في القرن السادس عشر، إبّان مرحلةٍ تاريخيّةٍ فارقة في أوروبا، عصر النهضة الذي أعاد فيه المُثقّفون اكتشاف التراث الإغريقيّ والرومانيّ. وهي كذلك حقبة نشوء الدول الوطنيّة، التي شرعت باعتماد لغتها القوميّة الخاصّة لتوطيد هويّتها الثقافيّة والسياسيّة. الأمر الذي أدّى إلى تعزيز فكرة الأدب الوطنيّ، النابع من لغة أهل المكان الذي تهيمن عليه قوانين هذه الدولة. تأسّست في فرنسا جماعة البلياد على أيدي شعراء ونُحاة فرنسيّين كبار، أبرزهم جواشان دو بيلّيه الذي ألَّفَ عام 1549م بيانًا بعنوان: دفاعًا عن اللغة الفرنسيّة وتبيانها. دعا فيه الشعراء الفرنسيّين إلى تعظيم لغتهم، واللجوء إلى مُفرداتٍ في لهجات فرنسيّة محلّيّة في حال تعذَّرَ الاشتقاق من لغاتٍ أخرى؛ وذلك بغية توحيد تلك اللهجات ببوتقة لغةٍ واحدة وغنيّة يُجمِعُ عليها الشعب الفرنسيّ. ولا شكَّ أنّ هذا المسعى سيُحِدث أزمةً مع الترجمة، فبقدر ما ينبغي لشعراء بلاده التعلُّم من شعراء الإغريق والرومان العظماء والاستلهام منهم، يجدر بهم الإتيان بتعابير لغويّة مُستحدثة وبليغة في الآن نفسه، ترتقي بالفرنسيّة إلى منزلة الإغريقيّة والرومانيّة: فرنسا في رأيه تحتاج إلى كُتَّابٍ خلَّاقين أكثر من احتياجها إلى مُترجمين خطَّائين[5]؛ كُتَّابٌ يستلهمون من الأقدمين مُباشرةً لا من عثرات مُترجميهم. فالترجمات لا تكفي لكمال اللسان الفرنسيّ، لأنّها من المُستحيل أن تُجاري حالة الإبداع والبلاغة التي ألهمت كتابات الأوّلين، إنّما ستُسفِرُ عن نسخة مُهجَّنة لا تفيد الفرنسيّة في تطوُّرها[6]. فالأجدى في رأيه أن يتّخذ شعراء وطنه القوالب والأوزان الكلاسيكيّة ليَنظُمُوا عليها شعرًا فرنسيًّا خالصًا وبديعًا؛ كما يشمل هذا المبدأ المواضيع الشعريّة، إلى جانب الفلسفة والعلوم أيضًا. كان يناشدهم السير على غرار الرومان في «تقليد الإغريق، والنهل من ثقافتهم، والتهامها، ثمّ هضمها جيّدًا وتحويلها إلى دمٍ نقيّ»[7].

هكذا شنَّ دو بيلّيه هجومًا لاذعًا على بعض المُترجمين، ونعتهم بالخونة، ليغدو أوّل مَن دوَّنَها على صفحات كتابٍ مطبوع وموثَّق في تاريخ الأدب الفرنسيّ: «مُترجمون سيّئون، لا لترجمة الشعر: وماذا عسى أن أقول عن أولئك الذين يستحقّون فعلًا أن يُسمَّوا بالخونة بدلًا من مُترجمين، طالما أنّهم يخونون مَن يضطلعون بتقديمه، وذلك بتفريغه من أمجاده! وبالطريقة ذاتها يغوون القرّاء الجهلة، بأن يُظهِروا لهم الأبيض على أنّه أسود. أولئك الذين لكي يكسبوا لقب العلماء، يترجمون بالأجرة من لغاتٍ لم يسمعوا حتّى عن مبادئها الأولى كالعبريّة واليونانيّة. […] كلامي ليس موجَّهًا للذين يترجمون أشهر شعراء اليونان والرومان تنفيذًا لإيعازات الأمراء والأسياد: فليس لخضوع هؤلاء لتلك الشخصيّات أيُّ عذرٍ في هذا المقام؛ إنّما قصدتُ الذين بقلوبهم المرحة يضطلعون بتلك الأمور باستخفاف. […] لن أضيف شيئًا آخر. مَن أراد تأليف عمل جديرٍ بالاعتبار بلغة شعبه، فليدع عنه مشقّة الترجمة، لاسيّما الشعراء، فهي مُضنية وشحيحة النفع، لا، بل أجازف بالقول: إنّها عديمة الجدوى، وتضرّ بإثراء لغتهم، وستجلب لهم المذلّة لا المجد»[8].

مع الأخذ بالحسبان أسبقيّة دو بيلّيه وفرادة ظرفه التاريخيّ، يبدو لي شخصيًّا أنَّ الفرق بين التعبيرين هو أنَّ ميناج ينحاز إلى أصالة المصدر مُتهكِّمًا من مُترجمين شوَّهوا أفكار النصّ الأصل، في حين أنَّ دو بيلّيه يستنكر ترجمات رديئة تقوِّض الجهود الرامية لقيامة اللغة الهدف أساسًا.

كبرياء وهجاء:

رغم أنّ كلمة “Traîtres” هي الدالّة على “خونة” بالفرنسيّة، فإنّ دو بيلّيه تجاهلها واستخدم كلمة أقلّ شيوعًا: “Traditeurs”. ربّما لأنّه أراد أن يُسجِّعها مع كلمة “Traducteurs”/ مُترجمون، [Traducteur, Traditeur]، الأمر الذي يسمح للتعبير بانتشارٍ أسهل. ولا بدّ أنّه استقدمها من الكلمة الإيطاليّة “Traditori”: ولا عجب في ذلك إذا عرفنا أنّ دو بيلّيه كان ضليعًا باللغة الإيطاليّة، وقد استقرّ في إيطاليا زمنًا من عمره القصير وكتب عن أوابدها، واستوحى دفاعه عن الفرنسيّة من نموذج سبيروني ومنهج بيمبو في دفاعهما عن العامّيّة الإيطاليّة في وجه اللاتينيّة[9]. كانت إيطاليا آنذاك منارة عصر النهضة، فلا ريب في أنّها أثَّرت حقيقةً في مُعظم المُفكّرين والمُثقّفين في عموم القارّة الأوروبيّة.

في عام 1539م، أي قبل عشرة أعوام على بيان دو بيلّيه، أصدر الكاتب والشاعر الإيطاليّ نيكولو فرانكو كتابه الأوّل الرسائل العامّيّة. كان فرانكو ذكيًّا ولمَّاحًا وجسورًا وسليط اللسان، تلقَّى علومه الإنسانيّة وراح يتنقَّل بين مُدن إيطاليّة عدّة، وعمل في مكاتب أسيادٍ وأدباء هنا وهناك، يتكسَّب بالكتابة ويعرض خدماته في نظم أشعار الهجاء لحساب زبائن معروفين في ذلك الزمان. فخلق لنفسه خصومات وعداوات، تأذّى منها جسديًّا ومعنويًّا، وجعلته يراكم الأحقاد على الضغائن بحقّ هذا وذاك. وكأنَّ كلَّ ما سبق لا يكفي، ألَّفَ صاحبنا في روما قصائد فاحشة، دخل على إثرها الزنزانة ليتصدَّر البابا بولس الرابع قائمة المكروهين لديه. فحالما أُفرِجَ عنه انضمَّ إلى دسيسة من المناوئين للبابا– المتوفّى آنذاك– ونشر بحقّه قصيدة هجاء، أودت به إلى اعتقالٍ فاستجوابٍ فتعذيبٍ فمُحاكمةٍ فإدانةٍ بالسجن الذي لن يخرج منه إلّا مشنوقًا على جسر سانت أنجلو وسط روما[10].

أمّا كتابه المذكور آنفًا، فهو عبارة عن مجموعة غريبة من رسائل كتبها إلى ملوك وأمراء ونبلاء وسفراء وأساقفة وفلاسفة وأدباء، علاوةً على شخصيّات مُتخيّلة ليس لها وجود، وجمادات كالمصباح، ومثاليّات كالحسد والحبّ والشهرة؛ الشهرة التي يعترف أنّه عَبَدَها في شبابه كما لو أنّها الإله. ثمّ نجد جوابًا يرده من المصباح إيّاه! يحدِّثه فيه عن أحوال البشر الذين يستنيرون به للقيام بصنائعهم السيّئة. فلا يسلم من لسانه أحد؛ يهزأ بالجميع: أثرياء وفقراء، راهبات وجنود، فلاسفة وجهلة، أدباء، شعراء، نحاة، طبّاعين، وصولًا حتّى إلى العاهرات والنجّادين، ومرورًا والحال هذه بالمُترجمين. فإذا كان يشهِّر بالأطبّاء ويصفهم بأنَّهم «قوّادة الموت، الذي يقبض على أخيار الناس ويستثنيهم، الأطبّاء يقتلوننا ولا يموتون، فلولا أفعالهم الإجراميّة لكفَّ الموت أيديه عنّا منذ زمن»[11]، فماذا تنتظر منه بحقّ المُترجمين! يقول له المصباح: «أرى المُترجمين، الذين يتظاهرون أمام العامّة والذين لا يعلمون، بأنّهم يعرفون حرفين ويترجمون أعمالًا من اللاتينيّة إلى اللغة العامّيّة. أراهم عندما لا يفهمون نصَّ الأدباء جيّدًا ينكِّسون رؤوسهم. أراهم يتعرَّقون حتّى من لحاهم الكثّة حين يبحثون عن مُفردة بسيطة ويلجأون إلى الشرَّاح. ولأنّني أراهم يموتون بكلّ عذاباتهم تلك، مُنذ الساعة التي يبدأون فيها؛ ولأنّني أشفق عليهم أيَّما إشفاق، لا يسعني إلّا أن أقول: يا سادتي الخونة، إن كنتم لا تجيدون صُنع شيء سوى خيانة الكتب، انصرِفوا عنها بكلّ هدوء لتتغوَّطوا بلا شمعة»[12].

لئن اتّسم فرانكو بالرعونة والسوقيّة في هذا الموضع (الترجمة أشقى من التغوُّط تحت الظلام)، أبدى رهافةً في مواضع أخرى كالغرام وشغف الكتابة، وصراحةً في همومٍ تشغله وتقضّ مضجعه. نجده في رسالةٍ يكشف عن تخبُّطه في رؤيته للترجمة، إذ يبوح لأحد أصدقائه قائلًا: «أحببتُ الترجمة كثيرًا، على قدر ما كنتُ أمقتها. وقد اجتاحتني رغبة شرسة بترجمة شيءٍ مّا بيديَّ هاتين، لولا خشيتي من سخرية أصدقائي. […] ولو أنّي قلَّدتُ كاستليوني لازدراني مقلِّدو بتراركا. ولو اتّبعتُ بوكاتشو لخرجتُ عن أعراف المُترجمين وأصبحتُ في جملة الخونة أنا أيضًا»[13].

يشترك جواشان دو بيلّيه ونيكولو فرانكو في تكبُّرهما على بعض المُترجمين أشباه المُثقَّفين، الذين يتصرَّفون من عندهم حيال مسائل نصّيّةٍ لا يحسنون التعامل معها، فلا هم حافظوا على عراقة الأصل، ولا أضافوا قيمةً نفيسةً تنتفع بها اللغة الهدف. أمّا الفارق فيكمن، برأيي، في أنّ فرانكو خلافًا لدو بيلّيه لم يكن قلقًا بشأن أصالة لغته، لأنّ أساساتها راسخة بفضل تحدُّرها مُباشرةً من اللاتينيّة العامّيّة، ولم تكن المسألة الوطنيّة مطروحةً بإلحاحٍ في إيطاليا حينذاك؛ إنّما كان يعدّ الترجمة مهنةً يتنطَّح فيها غير المُؤهَّلين، مثلما قد يحدث في مهنٍ أخرى كالطبّ على سبيل المثال لا الحصر. وعمومًا، تبقى لفرانكو الأسبقيّة في كونه أوَّلَ مَن ربط بين الترجمة والخيانة، بتعبيرٍ هجائيّ، وموثَّقٍ بكتاب، في تاريخ الأدب الإيطاليّ، والعالميّ برمّته.

مقولة شعبيّة وجذور لغويّة:

لم تعترض فرانكو مُشكلةٌ لسانيّة بخصوص التعبير، فالرنين الصوتيّ السجعيّ موجودٌ باللغة الإيطاليّة، ولا داعي لاجتراحه: (Taduttori) مُترجمون؛ (Traditori) خونة. والنتيجة هي [Traduttori, Traditori]. وها نحن أمام مقولةٍ شعبيّة دارجة في إيطاليا، تقوم أساسًا على جناسٍ شبه كامل بين كلمتين، ويراد بها التهكُّم على بعض المُترجمين في حالات مُتعدّدة: فقد يكون عميلًا لقوّة احتلال يتقن اللغتين، أو قد يحنث باليمين ويحرِّف ما بين يديه إذا كان ترجمانًا مُحلَّفًا، أو– وهذه هي الحالة الأعمّ– قد يخفي عجزه وإخفاقه في ترجمة جزء مُعيّن فينقله من دون تحقيق، أو يحذفه كلّيًّا للتملُّص من الرقابة.

لا شكّ أنّ مثل هذه المقولات القائمة على الجناس مُنتشرة لدى كلّ الثقافات؛ فالطرفة الشعبيّة غالبًا ما تستند إلى السجع والتقفية لإثبات حكمةٍ مّا وجعلها مأثورة ومتداولة: في سوريا يقولون “الأقارب عقارب”، “التاجر فاجر”، وإلى هنالك ممّا لا يُعدُّ ولا يحصى من تعابير مُماثلة. ولكن في حالة “المُترجم خائن” الإيطاليّة، يتشعّب الجدال ليجرفنا معه إلى جذورٍ واشتقاقاتٍ لسانيّة.

ينحدر فعل الترجمة بالإيطاليّة “Tradurre” من الفعل اللاتينيّ “Traducere” وهي كلمة مُركَّبة من دمج البادئة (trans) التي تشير إلى “الجهة الأخرى، ما وراء، ما بعد”، مع كلمة (durre) التي تعني” حَمَلَ”؛ والمعنى الناتج من هذا الدمج هو “حمل شيء مّا من مكان إلى مكان، أي نقله، أو تحويله، أو اقتياده”[14].

أمّا فعل الخيانة بالإيطاليّة “Tradire” فينحدر من الفعل اللاتينيّ “Tradere” ويعني “إعطاء، منح، توريث، تسليم”، فللكلمة معانٍ تختلف بحسب السياق: قد تعني تسليم الروح إلى خالقها، وقد تعني تسليم الأموال إلى مُستحقّيها، أو تسليم الجناة إلى العدالة. وفي السياق العسكريّ تعني: تسليم المدينة المُحاصرة للعدوّ خلسةً، وتسليم السلاح. وتحيل القواميس الإيطاليّة على أشهر سياق وردت فيه الكلمة اللاتينيّة، وهو الإنجيل: «فقال له يسوع: “يا يهوذا أبِقُبلةٍ تُسَلِّمُ ابن الإنسان”؟»/«Iesus autem dixit ei: “ Iuda, osculo Filium hominis tradis? ”» (لوقا 22:48)[15]. فانتقل هذا المعنى إلى الإيطاليّة للدلالة على الخيانة بكافّة أشكالها، من خيانة الوطن إلى خيانة الزوجة وما في ذلك من غدر وخذلان وإحباط.

اللافت في الأمر أنّه إذا تمعّنّا جيَّدًا لوجدنا أنّ كلمة (تقاليد/Traditions) مُشتقّة من هذا الفعل اللاتينيّ نفسه، بمعنى: توريث العادات من جيل إلى جيل أي تناقلها بين الأجيال أي تسليمها.[16] لذا فإنّ التقاليد والخيانة في الألسن اللاتينيّة مُشتقّتان من جذرٍ لغويٍّ واحد، ومُتقاربتان من حيث المعنى المبدئيّ؛ في حين أنّ الترجمة كما رأينا هي سليلة مُفردة مُختلفة. إلّا إذا أردنا أن نغامر وأن نضع الترجمة في سياق التسليم من لغة إلى أخرى، أو التقليد بين لغة وأخرى. وبهذا الاستثناء تفقد المقولة الشعبيّة مضمونها، في رأيي، وتتحوّل إلى جملة بديهيّة لا طائل من ورائها. يحضرني ما قاله رومان جاكوبسون عن هذا التعبير الإيطاليّ الجناسيّ إذ يتهافت حين يُترجَم إلى لغة أخرى[17]، وها قد رأيناه هنا مزعزع الأركان في جذور لغته نفسها.

خاتمة معقولة:

بعد عصر التنوير والثورة الفرنسيّة، والطفرات الصناعيّة وتغيُّر المُجتمعات، تبدَّلت النظرة إلى الترجمة. فالجميلة الخائنة لم تعد مقبولة في زمنٍ كتب فيه الماركيز دو ساد رواياته الفاضحة على سبيل المثال. تغيَّرَ مزاج القرّاء بالتوازي مع التغيير الجذريّ الذي طرأ على الأخلاق والحريّات الشخصيّة، في ظلّ فلسفات صاعدة ومنظومات قيميّة مُنهارة. وتزامنًا مع الثورات العلميّة والمعرفيّة، تطوَّرت دراسات الترجمة وتراكمت الخبرات في هذا الميدان، وأصبحت الترجمة الأدبيّة تتلاقح مع الفكر والمنطق واللسانيّات والآداب المُقارنة والسيمياء وغيرها. كما ساعدت التكنولوجيا في تكثيف الجهود المبذولة في البحوث والتحقيقات، وتعميق التواصل بين الجامعات ومراكز الدراسات في العالم، بحيث ينمو علم الترجمة ويتّسع مداه. كلُّ هذه العوامل أثَّرَت في الترجمة إذ هدمت مفهوم الخيانة بصفتها الحتميّة. وقد برزت في القرن العشرين وحدَه أسماء لامعة قدَّمت إضافات وإسهامات عظيمة في المجال. وما لبثت تحاجج في مسألة الصعوبة في ترجمة الأدب، واستحالة ترجمة الشعر، وخيانة النصّ الأصل، حتّى استطاعت أن تخلص إلى مفاهيم جديدة وعصريّة ودقيقة: ناقش رومان جاكوبسون «المظاهر اللسانيّة للترجمة» وأنواع الترجمة بحسب الدلائل اللغويّة ونظام الرموز المعجميّ، وجاء لورنس ڤينوتي بنظريّة «خفاء المُترجم»، وطوَّر أمبرتو إيكو فكرة «التفاوض» لتحديد مستويات الخسارة المُحتملة في عمليّة الترجمة، ولا ننسى جهود هولمز وستاينر ولادميرال وغيرهم كثر في توطيد تقنيّات وتطبيقات اقترحت حلولًا عمليّة لمُشكلات حقيقيّة.

كما شهد العالم العربيّ تطوُّرًا مُشابهًا تقريبًا، إذ استفاق العرب في عصر الحداثة على فجوةٍ هائلة تفصلهم عن العالم، وبدأوا ببذل مساعٍ حثيثة في دراسة النظريّات والانغماس في فعل الترجمة نفسه. فانتقلوا من حقبةٍ يترجمون فيها الأعمال الأدبيّة على هواهم، من دون حتّى إتقانٍ كاملٍ للغة المصدر، ومرّوا باللجوء إلى لغات وسيطة، وصولًا إلى وضع خطط شاملة لمشاريع واسعة، وتبحُّرٍ في أدب اللغة المُراد ترجمته. ورغم هذا، يبقى شبح الخيانة ماثلًا أمام المُترجمين والناشرين، في ظلّ رقابة حكوميّة واجتماعيّة مُتجذّرة ونشيطة جدًّا، قد يفنى الزمان ولا تفنى. تتدخّل في كلّ كبيرة وصغيرة وكلّ شاردة وواردة، بدءًا من التابوهات المعهودة كالجنس والدين والسياسة وليس انتهاءً بمُفردات وعبارات بسيطة. ولطالما أعاقت الرقابةُ– الذاتيّة أحيانًا– الدقّةَ في عمل المُترجم وأرغمته على اتّخاذ إجراءات مُتعسّفة بحقّ النصّ الأصل. كما لا يخفى ضعف الاهتمام بدراسات الترجمة التي يغيب عنها الدعم المادّيّ والمعنويّ بشكلٍ مُهين، الأمر الذي يجعلنا نبتعد أكثر فأكثر عن فكرة فلسفة الترجمة. إلّا أنّنا ما زلنا قادرين على مُناقشة الأسباب في حال أحيينا النقد وأساليبه وطرائقه، بغية طرح التساؤلات الذكيّة واعتماد المنهجيّات العلميّة المُعاصرة، والتوصُّل أخيرًا إلى إقناع المُتلقّي بخطورة النكوص في عالمٍ يتقدَّم لحظةً بلحظة.


[1] Amparo Hurtado Albir, Traducción y Traductología: Introducción a la traductología 2001

[2] Georges Mounin, Les Belles Infidèles 1955

[3]  L. Venuti & M. Baker, The Translation Studies Reader 2000

[4] André Lefevere, Tradition, History, Culture: A Sourcebook 1992

[5] Nicolas Froeliger, Traduction et trahison – Tout est dans le contexte 2017

[6] Joachim du Bellay, Deffence et illustration de la langue Francoyse 1549

[7] المصدر السابق ذاته.

[8] المصدر السابق ذاته.

[9] IgnacioNavarrete, Strategies of Appropriation in Speroni and Du Bellay 1989

[10] Maria Anna Noto, Viva la Chiesa, mora il Tiranno 2010

[11] Carlo Simiani, La vita e le opere di Niccolò Franco 1894

[12] Niccolò Franco, Le Pistole Vulgari 1539

[13] المصدر السابق ذاته.

[14] Dizionario Italiano Garzanti

[15] Dizionario Italiano Treccani

[16] Dizionario Latino Olivetti

[17] Roman Jakobson, On Linguistic Aspects of Translation 1959

اقرأ أيضاً